تربية الأطفال بين الاحتضان والانتهاك
هوية بريس – نعمان حمداوي
تزايد عدد الأطفال الذين يتعرضون إلى أشكال مختلفة من العنف وسوء المعاملة في المجتمع بشكل مقلق ومخيف جداً، بحيث ظهرتوتطورت أشكال جديدة من العنف تستهدف الأطفال بطرق مختلفة. ولم يعد الجناة والمذنبون في حق الأحداث يأتون من محيط الطفل فحسب، بل إن الأسرة أصبحت “هي الأخرى” تعرف في حالات شاذة نماذج من الحيف على حقوق أطفالها؛ وترتبط هذه النماذج غالباً بأشكال العنف التي تستهدف شخصية الطفل وتهدد سلامته النفسية. إن هذه الأسر تعرض أطفالها للإرهاب والحوادث المروعة، عن طريق الضرب والصراخ في وجوههم أو مشاهدة الخلافات الزوجية التي قد تصل إلى حد السب والقدف أو العراك، مما يسبب أثر نفسي سيء جداً في اللاشعور عند الأبناء. هذا الأثر الذي يلازمهم طيلة حياتهم وقد يتم ترجمته وتصريفه على شكل أفعال إجرامية لا تتوافق مع نظام المجتمع.
إن العنف الأسري ضد الأطفال انتهاك للبراءة بحجة التربية، وأن تلك السلوكات العنيفة لا علاقة لها بالتربية والتقويم، إنما هي تصرفات ترتبط بالقوة والشدة والعدوان الموجه نحو الطفل، ويضم صوراً من الإيذاء البدني أو اللفظي أو النفسي. وهذه الأشكال الكلاسيكية في التربية راجعة بالأساس إلى رواسب اجتماعية خاطئة وسيطرة الأعراف والتقاليد المجهولة المصدر. إنه لمن السخافة والجهل تبرير التعامل بقسوة مع الأطفال بحجة التربية.
إن ما يصعب على بعض الآباء فهمه هو أن استعمال الألفاظ الحادة والشتائم لا تحدث الاستجابة المرجوة من طرف الطفل، ولا تغير سلوك الطفل بالشكل المرغوب فيه، ولا تضمن السرعة في الضبط والتكيف مع القواعد التي تسطرها الأسرة. بل إن هذه الألفاظ والأفعال يكون لها تأثير لحظي فقط، بحيث لا تكون هذه الاستجابة عن قناعة وفهم، وإنما كبح للسلوك الذي يتربص الفرصة للظهور في صور عدوانية.
إن الفظاظة في التربية تُهشم شخصية الطفل وتجعله في حالة اضطراب دائم يصعب علاجه، إنها إرهاب وتخويف لطفل لم تكتمل شخصيته بعد وتبنى على أساس مضطرب غير مستقر، مما يجعله عاجزاً مستقبلاً عن الدخول في علاقات مع الأخرين. بهذا المعنى يكون تعنيف الطفل من داخل أو خارج الأسرة أفعال تجعل لديه القابلية ليكون ذلك الشخص غير السوي باضطرابات نفسية تجعله ممهداً منذ الطفولة إلى إيذاء نفسه والآخرين من حوله؛ أي أننا نجعله مشروع منحرف مستقبلي تتم تزكيته مع كل صرخة أو فعل عنيف.
لقد أشارت مجموعة من الدراسات على أن ضرب الطفل قد يستمر أثره النفسي على الطفل حتى بعد مرور عشر سنوات وينعكس ذلك على سلوكاته ومشاعره المستقبلية، كما يزيد من إمكانية إظهار سلوكات عدوانية وتحاشي التعبير أو إظهار السلوكات الجيدة تجاه الأخرين.
ولعل من الأسباب وراء إقدام الأسرة على تعنيف أبنائها، مع أن الأصل هو العكس، عدم اضطلاعها بالمناهج التربوية العلمية التي تكونها في أساليب الضبط والتربية السليمة واعتمادها على برامج عشوائية ارتجالية، في اعتقادها أن التشبع بطرق التربية يقف فقط على ساق الممارسة المستقبلية.
لا نشك في أهمية الدور الذي تقوم به الأسرة في تهذيب سلوك أبنائها، ولا نشك في قابلية الطفل لتمثل السلوك السليم إذا نشأ عليه. لكن وجب الوعي كذلك بحساسية الأدوار التي تضطلع بها هذه المؤسسة؛ ذلك أن كل ما يتلقاه الطفل داخل أسرته يكون فاعلاً في رسم سلوكه.
إننا نراهن على أن بناء الإنسان الصالح رهين ببناء شخصية طفل خالية من العقد، وأن للطفل قابلية بيولوجية ليتفاعل مع مربيه بشكل كبير، بغض النظر عن طبيعة التربية التي يتلقاها. ذلك أن الطفل في مراحله الأولى ناقص الإدراك والتميز وأن هذا الحال يجعل في موقع مستقبل غير معياري؛ أي أن خاصية تقيم مكتسباته الاجتماعية ومعالجتها بين صالح وطالح تبقى محدودة، بل معطلة في بعض الأحيان. الشيء الذي يجعل منه خزان يضم أنماط من السلوكات التي قد لا تتوافق مع ثقافة مجتمعه وقوانينه. هنا تظهر لنا قابلية الطفل للقيام بأفعال يكون مصدرها الأسرة بالأساس. وبالتالي فإن إعداد طفل لتعايش وفق معايير مجتمعية خاصة رهين أساساً بمدى تأدية الأسرة لدورها في حماية طفلها منذ الحمل. والأسرة مطالبة بتوفير الأمن والحماية لأفرادها، لا عكس ذلك.
وبهذا وجب على الأسرة أن تؤطر بمناهج تربوية تستجيب لحاجيات الطفل، وأن يعي الآباء أن الطرق التي استساغوا من خلالها التربية، في مراحل سابقة، في كثير من الأحيان لا يكون إسقاطها على أطفالهم أمراً حكيماً. ذلك أن شروط وظروف تلقيهم التربية تختلف عن تلك التي يكون فيها أبنائهم. إنه لمن المهم أن تتبع الأسرة منهجاً تربوياً أصيلاً في قواعده الأخلاقية والقيمية معاصراً في أشكاله وصوره، مع مراعات تامة لمعطيات الزمان والمكان والتغير الاجتماعي.