تفاصيل في تفسير وحشية العدوان الاسرائيلي على غزة (2/2)
هوية بريس-حسن حمورو
توقفنا في الجزء الأول من هذا المقال، عند تفاصيل مساعِدة على فهم وتفسير وحشية وهمجية العدوان الاسرائيلي المتواصل على غزة، منذ أن أبطلت عملية طوفان الأقصى، السحر الذي ظل الصهاينة يحكمون به قبضتهم على المنطقة العربية، وكشفت أن دولتهم وإن ظهر بالمنطق المادي أنها دولة قوية وأكثر تسلحا، إلا أن هزيمتها ممكنة.
وحاول الجزء الأول من المقال، أن يبين كيف أن وحشية العدوان، سببها هو غياب بديل سياسي او عسكري جاهز عند الاسرائيليين، لأنهم بإعادة انتخاب بنيامين نتنياهو، رئيسا لحكومتهم، يكونون قد بلغوا أقصى نماذج التطرف والتشدد، أو لنسميها الخطة الذهبية لضمان بقاء اسرائيل على الوجود، والقضاء على كابوس قيام دولة فلسطينية، سيشكل قيامها تهديدا دائما لإسرائيل، أو سيعطل حلم الصهاينة باسرائيل الكبرى.
كان واضحا أن اسرائيل، بالنظر لمعطياتها الداخلية، لن تستطيع تجاوز هزيمة “طوفان الأقصى” لوحدها، لأن ما حدث يوم 7 أكتوبر 2023، كان اختراقا عميقا استهدف ثقة المستوطنين في دولتهم وفي سياسييهم وعسكرييهم، وأدخل الشك في اختيارهم لافظع ما عندهم، وبالتالي سيحكم على كل ردود فعل دولتهم بالفشل قبل ان يصيبها الشلل.
ولهذا كان من الضروري أن يتدخل الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، لكي يسند اسرائيل باعتبارها، بيضته التي فقست في “الشرق الأوسط” و”سفيرته” في المنطقة، والنموذج الذي يسوقه لديمقراطيته المزعومة، وللتمدن والقوة والعلم وكل مقومات صورة الدولة التي لا تُقهر.
فسارع زعماء ومسؤولو كل الدول الغربية، الى السفر لعاصمة الكيان، وحركوا عناصر قوتهم الدبلوماسية والعسكرية، في مشهد غير مسبوق استدعى للأذهان بصورة أو بأخرى، تاريخ الحملات الصليبية.
لقد فقد الغرب توازنه، وهو يهرع الى فلسطين المحتلة، موفرا الدعم العسكري والتغطية السياسية والدبلوماسية لعدوان اسرائيلي يقتل المدنيين الأبرياء أغلبهم من الأطفال والنساء، متجاهلا أن البشرية بات لها قانون دولي، وباتت لها مؤسسات دولية، على ما يعتريها من أعطاب، وبات هناك إعلام ينقل الصور والمشاهد على الهواء، ونسي هذا الغرب في لحظة الفزع الاكبر الذي أصابه، أنه مدعي ريادة العالم وقائده نحو التحضر، ومخترع نظريات تنظيم المجتمعات، ومنبع القيم والأفكار، وصانع الثورات، والمدافع الأول عن الحقوق والحريات.
وبرر قادته بلا حياء قصف الاحياء السكنية ودور العبادة من مساجد وكنائس، ومستشفيات ومدارس، ومارسوا حملات التضليل والترهيب على الجميع، لتظل رواية الغرب الوحيدة المعتمدة، والوحيدة الحقيقية.
لماذا كل هذا اذا؟ حسب الظاهر والمتداول، فإن السبب هو الدفاع عن المصالح في سياق حرب مفتوحة منذ سنوات، بين هذا الغرب وخصوم وأعداء ينازعونه الزعامة الاقتصادية أساسا، وهذا صحيح، غير أن العنف والصفاقة، التي أظهرتها الولايات المتحدة الأمريكية ومن تبعها بظلم واستكبار، تحكي عن خلفيات وتفاصيل أخرى.
هذه التفاصيل تتعلق بالخوف من انهيار “النموذج الغربي” الذي تتطلب ارساؤه عقود وقرون من الزمن، وأُبيدت من أجل نشره شعوب وأجيال.
إن الغرب يعتبر انتصار حركة مقاومة صغيرة تنتمي لأمة أخرى، لطالما اعتُبرت عنده أمة بدائية غير متحضرة، على دولته النموذجية التي يرعاها في المنطقة، هزيمة مباشرة له، وليس لإسرائيل فقط، بل يتعدى الأمر عند الغرب، الهزيمة العسكرية والأمنية، إلى الهزيمة الحضارية، وهو ما لا يمكن أن يقبل به او يسمح به، أو يجعله قابلا للتصديق.
لأن ترسيم انتصار المقاومة الفلسطينية الإسلامية، على اسرائيل سليلة النموذج الغربي، يعني أنها لم تعد دولة نموذجية، وأن النموذجية ستنتقل إلى المقاومة، وسيظهر للشعوب العربية والاسلامية أولا، وباقي الشعوب الأخرى التي تقع تحت هيمنة وقهر الغرب، أن هزيمة اسرائيل وعموم الغرب ما تزال ممكنة ومتاحة، وستبنى المقارنات بين نموذج المقاومة المنتمية لأمة لطالما وُصفت وأدينتت بالتوحش والإرهاب والضعف والكسل، وبين اسرائيل القوية المدعومة من الغرب المتحضر المتفوق في كل المجالات.
إن ما لا يريده الغرب هو ان يترسخ في الاذهان، أن انتصار 7 أكتوبر 2023، كانت وراءه قدرات ليس هو مصدرها، ووراءه مخططين ومنفذين لا علاقة لهم بنظرياته وبثقافته، بل لهم ثقافة وقيم أخرى برزت للعالم في طريقة تعامل المقاومة مع الرهائن المدنيين، خاصة النساء والاطفال والمسنين، في صور نسفت حملات الشيطنة والتضليل الإعلامي التي مارسها الغرب ومايزال، سواء خلال هذا العدوان او قبله.
هذه تفاصيل يبدو من المفيد استحضارها في سياق متابعة ما يجري من جرائم ضد الانسانية في غزة، لفهم وحشية العدوان الاسرائيلي وتفسير تغطية الغرب عليه، ومحاولاته إخراس كل الأصوات المخالفة، لأنه يخوض حربا حضارية، يؤطرها بمعطيات التاريخ، تاريخه الأسود مع القتل والتذبيح والتهجير والتشريد، ويكون بذلك معترفا بانتصار المقاومة الفلسطينية الإسلامية، من حيث يريد إخفاء هذا الانتصار، وسييفتح بدعمه اللامشروط لإسرائيل، عيون كل الشعوب التي ظن أنه دكّ وعيها بحوافر أنظمة الاستبداد التي يمولها، على حقيقته، ويدفعها دفعا إلى النماذج الأخرى.