توجهات الشباب المغربي في العشرينيات
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
الفصل السابع من تقرير “روبير منطان”:
لا يخفى على الملاحظ اليقظ المتتبع للمجتمع “الأهلي” أن المؤشرات تتعدد من كون هذا البلد يعرف منذ أربع سنوات -على أحداث الريف- عملا داخليا عميقا يمكننا من خلال رصده أن نتبين منذ الآن توجهات “المغرب الشاب”.
أكيد أنه في الوقت الذي تتأكد فيه مظاهر قوتنا المادية كما هو الحال في مجموع شمال إفريقيا، وفي الوقت الذي تتحسن فيه تجهيزاتنا الاقتصادية وتكتمل سيطرتنا الإدارية وتصبح أكثر وطأة، في هذا الوقت بالذات يحدث أن السكان المسلمين في المدن يميلون أكثر إلى الانعزال والانغلاق على أنفسهم ويحصرون علاقاتهم بنا في المناسبات الرسمية، وذلك في نفس الوقت أيضا وكرد فعل طبيعي، تتشكل نخبة تعي بشكل متزايد الخطر الذي يؤدي إليه موقف الانغلاق، وتحاول أن تعمل من أجل الدفاع عن المستقبل وإثبات حيويتها.
ويمكننا من خلال أحداث متفرقة تسهل ملاحظتها، أن نتبين خط سلوك “الشباب المغاربة” وتبلور مواقف هي بمثابة ردود أفعال دفاعية لمجتمع عازم على مقاومة الضغط السياسي والإداري والاقتصادي والثقافي الذي نمارسه عليه، وهكذا نلاحظ تدريجيا تشكل مجموعتين من الاتجاهات الوطنية التي تحاول إحداهما إيجاد دعامتها الضرورية في الإيديولوجية الغربية، والأخرى في القوى الدينية وذلك لمواجهة الحماية.
وتتوقع هاتان المجموعتان أن يفضي نضالهما في مدة قد تقصر أو تطول، إلى التحرر التدريجي لبلدهم.
إننا نريد هنا أن نلامس ونكشف عن أولى مراحل تشكل هذه الحركات السياسية، ويكفينا لتجميع عناصر هذه الدراسة أن نقوم بجرد للأحداث التي وقعت منذ أربع سنوات في الرباط وبالأخص في فاس حيث مظاهر هذه الاتجاهات الجديدة أكثر وضوحا وصراحة، وسنضيف إليها المؤشرات التي جمعناها خلال بعض التحقيقات التي قمنا بها شخصيا.
ودون أن ندعي أننا نقدم معلومات وحقائق غير معروفة وغير منتظرة بالنسبة لمن بإمكانه استقاء المعلومات من مصادرها مباشرة، فإننا على الأقل سنحاول الإحاطة بدقة بكل مجموعة من الوقائع المعروفة، ونستخلص منها النتائج التي تفرض نفسها على الملاحظ النزيه.
ليس هناك موضوع أكثر صعوبة على المعالجة الموضوعية من التطرق لاتجاهات “المغرب الشاب”، فكل واحد تغريه مصادره الشخصية بالتضخيم أو التقليل من مخاطر تطور الاتجاهات.
إن الأفكار السياسية والعادات المهنية وحماس أول لقاء بالإسلام، أو بالعكس التشكك الناتج عن التجربة، كلها أمور قد تدفع دون وعي بذلك إلى تأويلات متسرعة، أو تشوه الحكم الإجمالي أما من جهة أخرى فإنه من الصعب جدا تقييم مشاعر الأهالي المتناقضة أحيانا والتي غالبا ما تكون سلوكات تتماشى والأعراف السائدة ويمليها الحذر، لذلك يجب الاعتماد على الوقائع الأكيدة عوض تصريحات الولاء المتعددة.
لقد حاولنا في هذه الصفحات أن نغض النظر بالكامل عن ردود فعلنا الشخصية، كما أننا لن نتخذ موقفا من المشكل الأخلاقي الخطير المتعلق بموقف فرنسا من السكان المغاربة، وسيكون موقع مقاربتنا ينطلق فقط من زاوية أمن سيطرتنا في شمال إفريقيا.
إلا أنه من غير الممكن التخلص كليا من إيحاءات التجربة الشخصية، لذلك نعتقد أنه من المفيد التحدث أولا عن الحالة الذهنية التي بدأنا فيها إنجاز هذا “الجرد”.
لقد كلفني المارشال ليوطي من سنة 1922 إلى 1924 بالإهتمام بالتطور الفكري والأخلاقي عند الشباب المتخرج من المدارس الإسلامية، ومكننا درس كنا نلقيه على هؤلاء الطلبة في معهد الدراسات العليا المغربية للتعرف عليهم جيدا وإصدار حكم في حقهم تمتزج فيه مشاعر الثقة الأولية وذكرى بعض خيبات الأمل.
إن مشاركتنا في قضية الريف كانت وثيقة جدا مما جعلنا نشعر بقوة بخيبة جديدة أمام الموقف الذي اتخذه آنذاك عدد كبير من قدماء تلاميذ مدارسنا.
وبعد ذلك علمتنا أربع سنوات من الدراسة داخل القبائل البربربة كيف تحكم بشكل أفضل على الأهمية النسبية لهذا الغليان الفكري في المدن، وإذا كانت قضايا نشاط شباب المغرب داخل المدن تستحق أن تثير اهتمام الحكومة، فإننا مع ذلك نعتقد بأنها في درجة أقل من حيث الأهمية أمام قضايا التنظيم السياسي والإداري للبادية، خاصة إذا ما عرف المستقبل القريب الوقوف في وجه خطر تطور البرجوازية المحلية -التي بدأت تكسب حاليا موظفي المخزن- وذلك بخلق مناطق بربرية مستقلة وذات نظام مغاير.
جمعية قدماء تلاميذ ثانوية مولاي إدريس “بفاس”
1- جمعية قدماء تلاميذ مولاي ادريس
إن جمعية قدماء التلاميذ الوحيدة النشيطة حقا هي جمعية ثانوية مولاي إدريس بفاس، فالروح الصدامية لبورجوازية العاصمة القديمة تحرك نشاطاتها في غالب الأحيان، لذلك سيكون من المفيد أن نخص تنظيمها ببعض الاهتمام.
أسست هذه الجمعية في الأصل لتمكيننا من ممارسة تأثير على الشباب الفاسي لفائدة عملنا ولإقامة علاقات مفيدة فيما بينهم لتسهيل نجاحهم في الحياة بعد إنهاء دراستهم، ولكن يظهر أن الجمعية لم تستجب بالكامل لآمالنا، ذلك أن رئيسين على الأقل من رؤسائها اختيروا من بين العناصر الأكثر مناهضة لسياستنا، وهما عبد القادر التازي سنة 1923، والزغاري سنة 1927.
يعقد مكتب الجمعية العديد من الاجتماعات التي أثيرت أثناءها أحداث مسرحية “طورتوف” كما ألقيت في إطارها عدة محاضرات مغرضة، وقد عرفت إحداها تقديم شاب في سن الثامنة عشر اسمه أحمد بناني، عرضا أمام زملائه حول: حدود الحقوق التي تمتلكها فرنسا في المغرب حسب الاتفاقيات.
وسيكون من باب التغافل القول أن هذه الجمعية لم تتعاط أبدا لأية مناقشة سياسية وفقا لما تنص عليه قوانينها “الفصل السابع”.
ومنذ مدة وجيزة أصبحت الجمعية تملك مطبعة لا نمارس عليها مراقبة مباشرة، كما أنها حاولت إصدار نشرة على شكل جريدة، وهناك مكتبة تكمل التنظيم ككل.
إننا لا نعلم إن كانوا قد حاولوا توظيف هذه الوسائل ضدنا، ولكن من المؤكد أن الرغبة في ذلك كبيرة بالنسبة لشباب صداميين بطبعهم.
المغاربة الشباب في باريس “1927”
إن المؤاخذة الأساسية الموجهة لتعليمنا الأهلي من طرف المغاربة الشباب هي اللاجدوى العملية للشهادات التي تُتوِّجه، لذلك فإن الرغبة الغالية بالنسبة لمن يريدون التعلم لكي يكتسبوا أسلحة للنضال كما يقولون، هي الذهاب إلى فرنسا لمتابعة تعليمهم.
وهناك معطى صغير يكشف عن حجم الجاذبية التي يمارسها بلدنا على تلاميذ ثانوياتنا، فخلال عرض قدمته فرقة مسرحية من الشباب الفاسي حيث يظهر اليتيم والثري نجد الطالب، الذي سيصبح فيما بعد محاميا ويطالب بالذهاب إلى عاصمتنا من أجل العلم يردد الكلمة السحرية “باريس” كلازمة في ما يشبه مقطعا غنائيا، وفي كل مرة يعبر الحضور عن حماسه من خلال تصفيقات حارة.
يوجد حاليا في باريس حوالي عشرة مغاربة شباب منهم سبعة فاسيين، وقد تكونت هذه المجموعة منذ حوالي ثلاث أو أربع سنوات.
ويهيئ الطلبة إما الباكالوريا أو الإجازة في الآداب، وهناك واحد مسجل في كلية الحقوق وآخر في كلية الطب، ويستفيد اثنان من هؤلاء الشباب وهما محمد الفاسي وفرج، من منح يسددها عدد من برجوازي فاس، وتجدر هنا أيضا ملا حظة كون عدد من المغاربة الشيوخ يقبلون تقديم أموالهم لتشجيع إرسال أفضل تلاميذ ثانوياتنا إلى باريس، وقد حدثنا أحدهم عن عمق تفكيره بقوله: “إن هذا الجيل يتعلم فقط من أجل تعاسة المغرب وفرنسا”، مع العلم أننا نعرف أنه يساهم في الإنفاق على طالب.
أما آخر، وهو موظف سام لدى المخزن بفاس، فقد أثار انتباهنا بصراحة إلى المخاطر التي يشكلها بالنسبة لنا هو هذا النمو الشامل في التعليم، إلا أنه لكي يحافظ على شعبيته، يشعر بكونه ملزما بإعطاء نصيب لتوفير منحة دراسية في باريس.
يعيش المغاربة الشباب مشتتين في باريس، وتتبعهم هناك ضعيف، الأمر الذي يجعلنا لا نعرف جيدا تطورهم الذهني، أكيد أن العديد منهم يخضع لتأثيرات نافعة، مثل تأثيرات السادة “ماسينيون” و”ودرمنغم” و”لادريت دولاشريير”، ومع ذلك لا بد من أن نعبر عن قلقنا الشديد بخصوصهم ونحن نرى المكانة التي يحتلونها منذ الآن داخل مكتب جمعية مشبوهة بشكل كبير.
إنها منظمة “الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا”، لقد كان هذا التجمع يقوده وينظمه تونسي ينتمي إلى الدستور، وهو الدكتور شادلي سالم، بتنسيق مع شادلي بن مصطفى خير الله، ويقيم العديد من أعضائه علاقات جيدة مع “نجمة شمال إفريقيا”، وهو تنظيم يقوده الأمير خالد بمساعدة الشيوعيين، ومنذ دخول المغاربة الشباب إلى “جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا” (حيث أصبح محمد الفاسي نائبا للرئيس) لاحظنا تزايد وصول كراسات بالعربية إلى فاس، تتضمن نص القوانين المنظمة لهذه المجموعة وأوراق تدعو إلى الانخراط فيها، كما نجد أحيانا داخل نفس الرسائل مناشير شيوعية ودعوات إلى التمرد.
وقد وضع نظام معقد من العناوين المتتابعة تحسبا للأجوبة المطلوبة من الذين يتوصلون بالإرساليات، علما بأن هؤلاء الأخيرين من الشباب المسلمين الأكثر نشاطا، كما أن عناوينهم تكون مكتوبة بدقة، ولا يخامرنا شك في قيام علاقات فعلية بين الحزب الشيوعي والشباب المغاربة في باريس، وأن الأول (الحزب الشيوعي) يوظف المعلومات التي يقدمها له الآخرين (الطلبة) حسب حاجيات دعايته المناهضة للإستعمار.
(ترجمة: الحبيب بلكوش/”الإتحاد الإشتراكي” ع8445-ع8446 س2007).