ثغور المرابطة للدكتور طه عبد الرحمن والقضية الفلسطينية بين المتحكمة والمتظلمة
هوية بريس – أ. د أبو جميل الحسن العلمي (أستاذ الحديث والفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل)
عرفت الدكتور طه عبد الرحمن فيلسوفا ومفكرا إسلاميا مرابطا في ثغور المراغمة والرد على تيار الحداثة العلمانية ونسف أطروحاتها الفلسفية المائعة في البلاد العربية. وهو جهاد يشهد له به الخاص والعام، نسأل الله تعالى أن يثقل به ميزان حسناته يوم القيامة.
وكنت مع اعترافي بفضله على المدرسة المغربية في الفكر الإسلامي أجاهر في المنتديات العلمية بنقد بعض آرائه، وأعتب عليه ميوله الصوفية الفلسفية التي كان يُغرق بها أحيانا في أفكار ومصطلحات وألغاز مشوشة على صفاء عقيدة أهل السنة. والله يتجاوز عنا وعنه فكل الناس يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي ﷺ .
وقد مضت سنون على ذلك إلى أن وقع في يدي كتابه «ثغور المرابطة مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية» فطالعت جل فصوله، وألفيته كتابا ماتعا ضاربا في عمق الفكر والتاريخ الإسلامي بسهم وافر، وظهر لي من خلاله تحول كبير ورشد عميق في الفكر السياسي والفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن.
ومن أجود ما سطره الدكتور طه عبد الرحمن في هذا الكتاب موقفه المشرف الذي يعتقده كل المخلصين في الأمة بشأن القضية الفلسطينية. بتحليل عميق ونقد فكري فلسفي لتاريخ الصراع بين المرابطين المقدسيين ممن استخلفهم الله تلك الأرض المقدسة، لحماية ثغورها، وحفظ قداستها ضد الغزاة المحتلين المغتصبين من بني صهيون، المبدلين والمغيرين لفطرة بني الإنسان، والمتعالين على حاكمية ومالكية الله رب العالمين،.
وقد وُفق الدكتور طه عبد الرحمن إلى حد بعيد في تحليله النقدي التاريخي للصراع التاريخي الفكري والسياسي بين من سماهم (المحكمة) و(المتظلمة)، وما وقع من بعض أمراء تلك الدول والطوائف المتتالية على حكم الأمة الإسلامية من الانحياز والاحتياز والاختيان، في ظلم الرعية وحكمها بمقتضى الجبرية والملك العضوض، وما حصل أحيانا من بعض غلاتهم في الخيانة من إخلاء ثغور الأمة للأعداء وطعنها من الداخل.
فمن حيث الجملة قد وجد في تاريخ هذه الأمة من ولاة وأمراء وخلفاء أهل السنة كثير من المستبدين المتسلطين على الأمة الإسلامية، ممن ساموها سوء العذاب وإن أجرى الله على أيدي بعضهم خيرا كثيرا في الفتوح الإسلامية ونشر الإسلام في الآفاق. من باب إن الله يعز هذا الدين بقوم لاخلاق لهم. كما قال النبي j : «قم يا بلال فأذن لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وإنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ.»([1])
كيزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان والحجاج، وقرة بن شريك، والوليد بن يزيد، وأبي مسلم الخراساني، وأبي العباس السفاح، والمأمون، والواثق كما غص تاريخ الرافضة المتظلمة بفراعنة المردة الطغاة كعبد الله بن سبأ، وعبيد الله بن ميمون المهدي اليهودي مؤسس الدولة العبيدية، وأبي الفضل العدني زعيم دولة القرامطة في اليمن، وأبي سعيد الجنابي مخرب البيت الحرام، والحاكم بأمر إبليس الفاطمي اللعين، والحسن بن الصباح زعيم الحشاشين، ووزير الخيانة ابن العلقمي الرافضي، وتمورلنك سفاك دماء الملايين من المسلمين، والشاه إسماعيل الصفوي طاغية الصفويين وحليف الصليبيين ضد العثمانيين.
لكن حكم الدكتور طه عبد الرحمن على كل الأمراء ممن سماهم المحكمة بالاحتياز والانحياز والاختيان، ومن بينهم معاوية رضي الله عنه بناء على روايات تاريخية تحتاج إلى تحقيق وتوثيق بما يخرج عن مجال تخصصه أمر لم يوفق فيه، ويحتاج منه إلى مراجعة وتفصيل، فإن الله يحب الإنصاف والبعد عن الظلم والاعتساف.
فإن الأمة لم تخل في تاريخها السياسي من بعض الأمراء الصالحين المصلحين ممن قادوا إمارات إسلامية نفع الله بها العالمين، وأنقذ بها الأمة من ظلم المتظلمة كبعض أمراء الأمويين والعباسيين والغزنويين والسلاجقة والمرابطين والخوارزميين والمماليك والعثمانيين.
ومن هؤلاء الخليفة عمر بن عبد العزيز شامة بني أمية، وموسى بن نصير فاتح بلاد المغرب وصاحب الفضل في هداية الأمازيغ إلى دين الإسلام، وطارق بن زياد فاتح الأندلس، وعبد الرحمن الداخل صقر قريش ومؤسس خلافة بني أمية بالأندلس.
وهارون الرشيد قاهر الصليبيين، وصاحب مواقف العزة في وجه «نقفور كلب الروم» والمعتصم فاتح عمورية على زغل فيه، المتوكل ناصر السنة، ومحمود بن سُبكتِكين الغزنوي فاتح الهند وهادم أصنام الوثنية بها.
والأمير طغرل بك السلجوقي منقذ الخلافة العباسية من جرائم البويهيين وخيانة البساسيري عميل العبيديين، والأمير ألب أرسلان حامي ثغور الشام وبطل معركة ملاذ كرد، وابنه ملك شاه.
وعبد الله بن ياسين مطهر بلاد المغرب من وثنية البرغواطيين وتشيع الرافضة البجلية وظلم مغراوة، ويوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين أعظم إمبراطورية إسلامية في تاريخ المغرب والأندلس .
وعماد الدين زنكي الملك الشهيد، ونور الدين محمود زنكي من حماة ثغور الأمة من حملات الصليبيين. وصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس من ظلم وطغيان النصارى في معركة حطين. والمظفر قطز قاهر التتار والمغول في معركة عين جالوت .
والأمير عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية، ومحمد الفاتح فاتح القسطنطينية، والسلطان بايزيد الصاعقة قاهر الصليبيين، والسلطان سليم الأول موحد أصقاع الخلافة العثمانية، ومن استأصل شأفة الصفويين في معركة شالديران، والسلطان سليمان القانوني الذي دوخ معاقل الصليبية، وظلت ترتعد من هيبته فرائص ملوك أروبا وتستنجد بسطوته ضد خصومها.
وقس على هؤلاء عندنا في بلاد المغرب السلطان أحمد المنصور الذهبي السعدي بطل وادي المخازن مع أخيه عبد الملك وهادم مملكة البرتغال، والسلطان محمد بن عبد الله العلوي سلطان العلماء الذي كانت تهابه ملوك الإفرنج وتدفع له جزية البحار، ويستعين بمساندته الخليفة العثماني عبد الحميد الأول في حروبه مع النصارى.
وعليه فالفرق شاسع بين هؤلاء الأعلام وبين المتسلطين من المتحكمة المنتسبين لأهل السنة ممن تنطبق عليهم أوصاف الاحتياز والانحياز والاختيان لدى الدكتور طه عبد الرحمن، وآخرهم الخوارج الخونة للخلافة العثمانية من الوهابية عملاء الإنجليز وزعماء القومية العربية ممن باعوا أرض فلسطين لبني صهيون إثر الثورة العربية الكبرى ووعد بلفور المشؤوم 1917م .
وكذا الطغاة الظلمة من مجوس الفرس المتظلمة فهؤلاء لم تكتحل أعين الأمة الإسلامية من جهتهم بخير يُذكر في تاريخها المليء بمواقف الخيانة والتحالف بين أمراء وجيوش العبيديين والحشاشين والقرامطة والصفويين مع الصليبيين والتتار والمغول وكل أعداء الأمة في الداخل والخارج.
فثغور المرابطة في الأمة صانها أولئك القادة والأمراء الصالحون المصلحون الذين لايمكن حشرهم ضمن المتحكمة ولا وصفهم بأي صفة من صفات الاستبداد والعصبية القبلية أو العرقية فضلا عن الخيانة العظمى لأمة الإسلام.
كما ثلمها وطعنها بخنجر الخيانة سائر المتظلمة من مجوس الأمة وحفدة بني ساسان من الشيعة الرافضة والإسماعيلية والنصيرية، انطلاقا من الحركة السبئية وحركة التوابين بزعامة المختار بن أبي عبيد الثقفي، إلى ادعياء إحقاق العدل الإلهي والانتصاف لآل البيت من العبيديين والقرامطة والحشاشين والصفويين والمغول التمورلنكيين وشيعة إيران الخمينيين وحزب اللات والعزى في لبنان، العلويين النصيرية في بلاد الشام
وغيرهم من أدعياء الانتساب إلى محور الممانعة، أو المماتعة في أصح الروايات، ممن طفح تاريخم الأسود بمواقف الخيانة للأمة الإسلامية، ونظريات تصدير الثورة لتركيع أهل السنة واستعبادهم أو محوهم واستئصالهم من الوجود، وآخرها خيانتهم المكشوفة لثورات الربيع العربي والقضية الفلسطينة اليوم. في زمن التسلط والجبروت والاستكبار الصهيوني والأمريكي على إخواننا الفلسطينيين المستضعفين من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء الذين لاحول لهم ولاقوة.
لأن قوة هؤلاء الصهاينة الجبناء الذين لايقاتلون الأمة إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدر لاتكفي ولن تكفي لهزيمة أو استئصال جحافل المجاهدين الأشاوس الذين بشرنا النبي j بأنهم سيظلون مستمرين في ثغور المرابطة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك .
قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، وروى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال j: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»([2]) .وأصله في الصحيحين دون عبارة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس. وللحديث شاهد من حديث مُرَّة بن كعب البهزي، رضي الله عنه، أنه سمع النبي j يقول: “لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ”. قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: “بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ”([3]).
قال الحافظ ابن حجر : «الْمُرَادَ بِالَّذِينَ يَكُونُونَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِينَ يَحْصُرهُمُ الدَّجَّالُ إِذَا خَرَجَ فَيَنْزِلُ عِيسَى إِلَيْهِمْ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ وَيَظْهَرُ الدِّينُ فِي زَمَنِ عِيسَى»([4])
فإن العاقبة للمتقين، والوجود الإسلامي في بيت المقدس وبلاد الشام لايمكن لأي قوة قاهرة مهما بلغت في التسلط والجبروت أن تستأصله وتُخلي الأرض منه لأنه خلاف وعد الله ورسوله لهذه الأمة. كما قال تعالى :
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ([5])
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة : 6606، ومسلم حديث 111 . وقد ورد في رجل كان يدعي الإسلام وشهد النبي j أنه من أهل النار ، وانغمس مع الصحابة في المعركة يقاتل الكفار، حتى ارتاب بعض الناس في أمره فلما آلمته جراحه انتحر بسهم وقتل نفسه .
[2] – وهو حديث حسن بمجموع شواهده رواه عبد الله بن أحمد في المسند عن أبيه وجادة : 5/ 69 22320 ، والطبراني في المعجم 8/ 171 (7643) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ورجاله ثقات. وفي إسناده عمرو بن عبد الله الحضرمي تابعي لا تصح له صحبة، لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، وذكره البخاري، وابن أبي حاتم، وسكتا عنه، وقال ابن حجر: “مقبول”. “التاريخ الكبير” (6/ 349)، “الجرح والتعديل” (6/ 244)، “التهذيب” (8/ 68)، “التقريب” (2/ 74). وفي إسناد أحمد: مهدي بن جعفر الرملي، وثقه ابن معين، وقال ابن عدي: “لا بأس به”، وقال البخاري: “حديثه منكر”، وقال ابن حجر: “صدوق له أوهام”.”التهذيب” (10\325)، “التقريب” (2/ 279).- وحمل بعض العلماء قول البخاري أنه يعني حديثًا معينا من أحاديثه، وإلا فإنه لا يطلق هذه العبارة إلا على من كان هالكا شديد الضعف. وللحديث شواهد أخرى منها حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله j قال: “لَا تَزَالُ عِصابَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ علَى أبوابِ دِمَشْقَ ومَا حَوْلَهُ، وعلَى أبوابِ بيتِ المَقْدِسِ ومَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُم خِذْلانُ مَن خذَلهم، ظَاهِرِين علَى الحَقِّ إلى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ”. أخرجه أبو يعلى (6417)، والطبراني في الأوسط (47)، وابن عدي في الكامل 7/ 84.
[3] – أخرجه الطبراني 20/ 317 (754)
[4] – “فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 13\293 .
[5] – سورة النور ، الآية 55 .