جسد المرأة المغربية من الاستقلال إلى الاستغلال!

جسد المرأة المغربية من الاستقلال إلى الاستغلال!
هوية بريس – نبيل غزال
بات العديد من المواطنين يستنكرون، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من تفشي مظاهر العري والإخلال العلني بالحياء العام في الشواطئ والحدائق والمنتزهات العامة، حيث بلغ هذا الانحراف درجة لا يمكن وصفها إلا بالخطيرة والمهينة والحاطة من كرامة المرأة.
وما نتابعه اليوم من سلوك منحرف هو نتيجة عمل كبير ومضنٍ، شمل عددا من المجالات، إذ تطلّب تغيُّر المرأة في لباسها، ودفعها إلى إدارة ظهرها لأحكام ومبادئ دينها، وتنكرها لفطرتها التي فطرها الله عليها، عملا كبيرا، خصوصا على مستوى المفاهيم والتصورات والقدوات.
ودعونا نرجع قليلا إلى التاريخ القريب، لا البعيد، لنقف على بعض أسباب هذا الانحراف الذي بات اليوم سلوكا مطبّعا معه، وصار كل من يعارضه أو يشجبه يُوصَف بالرجعي والماضوي والمتشبث بقيم وأخلاق “بالية”.
فجريدة “السعادة”، التي طُبعت نسخها الأولى بمقر المفوضية الفرنسية بطنجة سنة 1906، والتي كانت تمثل لسان الاحتلال الفرنسي وأداة لنشر أفكاره بين المغاربة من منظور علماني بحت، اشتغلت بشكل مكثف على التصورات المرتبطة بالمرأة المغربية. ومن بين المواد التي نشرتها سنة 1956 مثلا، صورة لامرأة كاشفة عن ذراعها ونصف فخذها وهي ترتدي لباسا إفريقيا فاضحا، كتبت تحتها:
“الآنسة كريمة الجزائرية الأصل قدِمت إلى أوروبا لدراسة العلوم الطبية، ولكنها ما لبثت أن تخلت عن دروسها وأقبلت على السينما، حيث ذاع صيتُها، وأصبحت من النجوم الساطعة على الشاشة البيضاء. وتشارك الآن في تسجيل رواية (طام طام ميومب)، وتؤدي فيه الدور الرئيسي، وتقوم برقصات إفريقية غريبة الشكل“.
وطبعا، ونحن نتحدث عن سنة 1956، فيجب أن نستحضر كيف كان وضع اللباس والهندام في المغرب حينها، حيث كانت معظم النساء المغربيات محجَّبات حجابا كاملا لا يُرى من عوراتهن شيء. وحين تُنشر صورة “الآنسة كريمة” وهي تَكشِف عن جزء كبير من جسدها، وتعبر عن رغبتها في استبدال تعلم الطب بولوج عالم الفن والسينما والرقص، فإن الغاية من ذلك كانت إحداث خلل مفاهيمي وقيمي لدى النساء المغربيات، وتقديم نموذج جديد للمرأة يعلن التمرد على المجتمع والموروث، ولا يناقش فقط جدل تعليم المرأة وسفرها لدولة الاحتلال، بل يستبدل اكتساب المهارات العلمية، حتى وإن كانت في الطب، بولوج عالم كان يُوصَف بالمجون والانحلال الأخلاقي (السينما والفن).
وربطا للماضي بالحاضر، فلا يزال الاشتغال على جسد المرأة ولباسها وتصوراتها مستمرا إلى حدود الساعة، إلى درجة أن بعض الجرائد التي توصف بـ”المغربية” باتت تنشر مواد أخطر مما كانت تنشره جريدة “السعادة”، لسان الاحتلال الفرنسي.
ولك أن تتصوّر، أيها القارئ الكريم، أن جريدة “مغربية” كتبت في عمودها الرئيسي:
“مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذي كانت فيه الحرة الغبية تجوع ولا تأكل بثديها، وحلّ مكانه زمن لا ينبغي فيه للحرة «القافزة» أن تجوع أمام إمكانية التوفر على سيارة فخمة ومنزل راق ورصيد محترم في البنك، فقط بالقيام باللعبة الرياضية المدرسية، دون أن ندرك أنها كانت تهيئ عددا كبيراً من زميلاتها التلميذات للتعوّد عليها وجعلها مهنة في القادم من الأيام”. (جريدة الأحداث المغربية، عدد 3807).
وجريدة أخرى تطالب، تحت عنوان “دعوا الحب يتنفس” بـ:
-حرية الجنس دون تبعات اجتماعية أو دينية؛
-رفع التجريم عن “العلاقات الرضائية” (الزنا)؛
-وقف توزيع صكوك العفة والأوصاف البالية الجارحة مثل “بنت دارهم” و”عْـزْبَة”؛
-تحرير الأجساد من قبضة القوانين والأعراف والدين.
(جريدة الصباح، عدد 26 شتنبر 2019)
أما الدراما والمسلسلات والأفلام والبرامج، فلا تكف أن تطبّع هي الأخرى مع مقولة “جسد المرأة ملك لها فقط، تفعل به ما تشاء، ولا دخل لخالق، ولا وازع ديني أو أخلاقي في هذا الموضوع”، مدعية أن المرأة تعرضت للسلطة الذكورية في مجتمعنا المغربي، الذي “لا يفهم حرية المرأة في أن تتعرى أو تظهر جسدها ومفاتنها على غلاف مجلة أو فيديو كليب، أو تمارس عريها كنوع من الفن أو الاستعراض“.
وبربط الماضي بواقعنا اليوم، فلا فرق في خطاب هذه المنابر عما كانت تنشره جريدة “السعادة”، بل قد فاق بعضها ما كان يصدر عن لسان الاحتلال الفرنسي، إذ أصبحوا أكثر شراسة في الدفاع عن العري، وحرية الزنا، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. لكنهم لم ينتبهوا إلى أن هذا الخطاب ذاته بات أيضا في نظر الكثيرين ماضويا باليا ورجعيا، خاصة بعد أن تجلت للعالم أجمع تداعياته وانعكاساته السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع.
لقد أصبحت المرأة المغربية، بوجه خاص، والمسلمة بوجه عام، في أمسّ الحاجة اليوم إلى وقفة واعية مع الذات، ومراجعة عميقة للوضع الذي آلت إليه في ظل سيطرة الفلسفة النفعية، وفقدان المعنى والقيمة والغاية.
فالمرأة اليوم تعاني من تسلّط منظومة مادية تستغلها فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتشكو من ارتفاع نسب العنوسة والطلاق، وتراجع معدلات الخصوبة والزواج، وكثير من النساء اللواتي تأثرن بموجة الحداثة وسيولة ما بعد الحداثة أصبحن اليوم يرفعن أصواتهن ويشتكين من هذا التلاعب؛ لا بالمرأة وجسدها فحسب، بل بالأسرة والمجتمع ككل.



