جليبيب… عَرُوسُ الجنة
هوية بريس – علي كرزازي
صحابي جليل ينتهي نسبه إلى بني ثعلبة، كان حليفا في الأنصار وعده ابن الجوزي في “صفة الصفوة” من الطبقة الثالثة من المهاجرين والأنصار ممن شهد الخندق وما بعدها، لو لم يدخل الإسلام لكان جليبيب نكرة، فلم يكن رضي الله عنه غنيا ولا ذا نسب وحسب بل كان زاده الإيمان والتقوى، والتقوى هو المعيار الذي اعتمده الإسلام في التمييز بين البشر، يقول المولى عز وجل:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” [الحجرات، الآية: 13].
كان جليبيب شابا موفور الصحة، حسن الخُلُق وذا روح فكاهية، حباه الله بنعمة وأي نعمة؟ لقد أحبه المصطفى عليه الصلاة والسلام حبًّا كبيرا، وكان من دأب الرسول الكريم أن يروح عنه نفسه وعن أصحابه ساعة ساعة، وذات يوم أحب أن يداعب صفيه جليبيب فقال له: يا جليبيب ألا تتزوج ؟ فقال: يا رسول الله ومن يزوجني؟؟ إن هذه اللهجة الاستنكارية الصادرة عن جليبيب إنما كانت نتيجة إحساسه بكونه مستضعفا، فلا نسب ولا حسب ولا مال ولا حسن خِلْقة فكيف يتأهل لهذا الزواج ؟؟
لقد تكفل معلّم الأمة وهاديها إلى حل هذه المعضلة، فعمد أولا إلى إعادة الثقة بالنفس لجليبيب ، كما أهلّه من خلال تربيته وتشريبه قيم الإسلام، فكان بين هذا وذلك يرفّهُ عنه ويداعبه، ثم انتقل بعد ذلك إلى التعهد بتزويجه، ويحكي ابن الأثير في “أسد الغابة في معرفة الصحابة” أن أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه والذي عُرف بإحسانه للأرامل واليتامى والمساكين شكا بأن جليبيبا كان يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن فأمر امرأته يوما: “لا يدخلنّ عليكم جليبيب، فإنه إن دخل عليكن لأفعلنّ ولأفعلن” (مسند الإمام أجمد)، ولمى نما الخبر إلى رسول الله ﷺ عزم على تزويج جليبيب بعد أن أعدّه لهذا الاختبار الحياتي الهام. يقول الإمام أحمد في مسنده عن أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه- قال:” كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوجها حتى يعلم، هل للنبي ﷺ له فيها حاجة أم لا؟ فقال النبي ﷺ لرجل من الأنصار: “زوجني ابنتك” فقال: نعم وكرامة يا رسول الله، ونُعم عين قال: “إني لست أريدها لنفسي” قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: “لجليبيب” قال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها، فقال: إن رسول الله يخطب ابنتك، قال: نعم ونعمةُ عين، قال: إنه ليس يخطبها لنفسه، وإنما يخطبها لجليبيب، فكان مما ردت به: لا، لعمرُ لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي النبي ﷺ ليخبره بما قالت أمها، قالت البنت: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله ﷺ أمره، ادفعوني إليه، فإنه لم يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله ﷺ فأخبره، فقال: شأنك بها، فزوجها جُليبيبا”.
ما نفيده من هذا الخبر أن الفتاة فطنت أن الذي خطبها إنما هو رسول الله ﷺ، خطبها لجليبيب، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن هذا الزواج سيكون زواجا مباركا وجالبا للخير والسعادة، وإلا فما كان الرسول ليسعى فيه إن لم يكن كذلك، ومن ثمة لم تشغل الفتاة بالها بوضع جليبيب المادي، أو الاجتماعي ولم تلتفت إلى مدى وسامته أو ذمامته. وفي هذا انصياع لأمر الله ورسوله ﷺ، يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخُلقه فزوّجوه” (رواه الترمذي)، وجليبيب خريج المدرسة المحمدية، مدرسة الإيمان الصادق والخُلق القويم، فلماذا لا ترضى به زوجا وقد زكاه الرسول ﷺ وخطب له؟؟ وفضلا عن ذلك فالرسول ﷺ يقول: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم“.
إن هذه الفتاة وقد استجابت لطلب رسول الله ﷺ وأطاعته ورضيت بمن اختاره لها زوجا، نالت رضا الله ورضا رسوله الذي بارك زواجها بجليبيب ودعا لها الله قائلا: “اللهم صُبّ عليها الخير صبّا صبّا، ولا تجعل عيشها كدّا كدّا“، هكذا انبنى صرح هذا الزواج المبارك على التقوى والمودة والرحمة والسكينة، فقدّم طرفاه أنموذجا للزوجين المؤمنين السائرين على المحجة البيضاء التي رسمها معلم البشرية وسيد الخلق نبينا الكريم ﷺ.
وبعد انصرام مدة يسيرة على زواج جليبيب، دعا رسول الله جنده للسير في إحدى الغزوات، فلم يبطئ جليبيب في الاستجابة لداعي الحق وداعي الجهاد بالرغم من حداثة زواجه، ذلك هو ديدن المؤمن الصادق الذي ذاق حلاوة الإيمان، فلم تصرفه الدنيا ولا ملذاتها عن الارتماء في حمأة الدفاع عن شرف الإسلام والجهاد في سبيل الله، بل مضى إلى نصره الحق بقلب صبور مفعم بالإيمان والثبات يقول تعالى:” وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ “ [سورة آل عمران، آية: 140-142].
وبعد انقشاع غبار المعركة يهرع المسلمون إلى تفقد إخوانهم، فيسأل الرسول أصحابه: “هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال: ” لكني أفقد جليبيبا“، قال: “فاطلبوه“، وبعد البحث وجدوا جثمانه الطاهر إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فلما رآه المصطفى عليه السلام قال: “قتل سبعة وقتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه”
إنها أعظم شهادة وأرفع وسام لأنبل بطل شجاع، آثر حب الله وحب رسوله وسلك طريق الشهادة ليسجل في زمرة الشهداء الأبرار إلى يوم الدين، أما زوجته الصالحة فنالت بركة دعاء النبي ﷺ ففتح لها الله أبواب الرزق، يقول عنها أنس بن مالك “فما رأيت بالمدينة ثيبا أنفق منها” . رحم الله جليبيبا وزوجه وألحقهما بالصالحين والصديقين في أعلى عليين.