لا تأتي محطة من المحطات السياسية الهامة إلا ويحرصون فيها على إظهار الاعتزاز بتاريخهم الإسلامي المجيد، والإشادة بصفحاته المضيئة التي خطت فيها معاني العزة والكرامة والعدل والخير..
هذا هو حال قيادات حزب العدالة والتنمية التركي؛ الذين تلحظ فيهم هذا الحرص في كثير من أقوالهم وأفعالهم وفي أبرز محطاتهم النضالية.
بل إن الزعيم الأشهر للحزب، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يفوت مهرجانا خطابيا هاما إلا يظهر فيه ذلك الاعتزاز؛ ويستدعي بطولات التاريخ ليستلهم منها المواقف الشجاعة في الحاضر والمستقبل؛ كما يستدعي من دينه -الذي هو تاج أصالته- ما يرسخ عقيدته في النفوس إيمانا بالله وقدره وجنته وناره، ويربط المخاطبين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربطا تلتقي فيه الأصالة بالمعاصرة والإيمان بالسياسية..
أما تعلقه بالقرآن الكريم؛ تلاوة وتخشعا واستلهاما لمواقف الرشد والعدل والجهاد والبذل..؛ فحدث ولا حرج..
إن مؤسس الجمهورية الثانية يدرك جيدا بأن الأمة التي تريد أن تكون أمة قوية عزيزة حرة كريمة؛ لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها ولا أن تتنكر لأصالتها وتراثها؛ بل إن هذا التراث مكون أساسي في نهضتها وانطلاقتها؛ منه تستفيد من التجارب الهامة، وتعرف أساليب الأعداء في المكر والكيد، وتقف على أخطاء الأجداد لتفاديها، وتستلهم من التوجيهات الربانية والمواقف الإيجابية..
لقد كان هذا المعنى حاضرا بقوة في الحفل المليوني الضخم الذي اجتمع حوله الأتراك أمس الأحد 7 غشت ليعلنوا فيه ميلاد تركيا الجديدة، والذي اتفقت فيه كلمة زعيم الحزب الحاكم وغيره من السياسيين على استلهام الأصالة الإسلامية والتاريخ العثماني في بناء الجمهورية الثانية؛ كان هذا النفس حاضرا في كلمات رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان، بل ورئيس أكبر حزب معارض في البلاد..
وبالقدر الذي نلاحظ فيه حرص حزب العدالة والتنمية الحاكم؛ على أصالته، نلحظ أيضا انفتاحه الكبير على النافع من المعاصرة في الإدارة والسياسة والاقتصاد والفن والتواصل..؛ ولا أدل على ذلك من تمسكه بتركيا الحديثة؛ تركيا الوطن والدستور والقانون والمؤسسات والاقتصاد والانفتاح وممارسة السلطة في ضوء ديمقراطية حقيقية تضمن حق الشعب في اختيار من يحكمه ومن يمثله..
بل إن حزب العدالة والتنمية في ممارسته للسياسة وتحمله لمسؤولية الحكم؛ ترجم الجوانب الإيجابية في الديمقراطية إلى واقع؛ متمثلة في: ضمان حق الناس في اختيار من يحكمهم، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ونظافة اليد وصيانة المال العام، وفرض احترام القانون، والوفاء للشعب بوعود البرامج الانتخابية، والشفافية في التدبير واتخاذ القرارات ووضع السياسات العامة..
كل هذه الأخلاق السياسية التي دعت إليها شريعة ديننا، وأدركت أهميتها المجتمعات الإنسانية، واصطلحت على تسميتها في السياسة المعاصرة بالديمقراطية؛ مارسها وطبقها حزب العدالة والتنمية الذي يتصدر المشهد السياسي في تركيا؛ مما يجعل منه حزبا للأصالة والمعاصرة حقيقة لا ادعاء، قولا وفعلا، تنظيرا وممارسة..
أما الحزب الذي تسمى بهذا الاسم عندنا في المغرب؛ فلم نر فيه أصالة إلا ما يذر الرماد في العيون من جلباب وطربوش مغربيين أصيلين، ولا معاصرة في المجال السياسي إلا هنداما أنيقا وخطابات تتغنى بالديمقراطية لتغطي استبدادا علمانيا حادا!
وإلا؛ فأين هي المواقف الحقيقية والتصريحات المتتالية في الاعتزاز والافتخار بالتاريخ الإسلامي للمغرب، وأمجاد وبطولات رجالاته وما أسسوا من حضارة إسلامية قائمة على الإيمان والعمران..
هل سمعتم أيها المغاربة من قيادات هذا الحزب خطبا في الاعتزاز بتراثنا الأصيل؛ وتاجه العظيم؛ ألا وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل سمعتم يوما السيد إلياس العماري يستشهد بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتبره قائدا ملهما كما يفعل أردوغان؟
هل سمعتموه يوما يجود القرآن الكريم الذي هو تاج الأصالة وهداية المعاصرة؛ كما يتلوه ويجوده السيد أردوغان؟؟
بل على العكس من ذلك؛ الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة المغربي صرح في حوار صحافي عام 2009 بأن من برنامج حزبه: مقاومة أسلمة المجتمع!
وصرح بوضوح عند توليه منصب الأمين العام بأنه جاء لمحاربة الإسلاميين..
وليس الإسلاميون إلا خصمه السياسي حزب العدالة والتنمية؛
فما هو هذا الإسلام الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية سوى الإسلام الأصيل الذي عرفه المغاربة منذ قرون؟
بل إن حزب الأصالة والمعاصرة استضاف في شهر رمضان لسنة 1436هـ مفكرا ملحدا استهزأ -تحت تصفيقات مناضلي الحزب-؛ بكل مقومات التراث الإسلامي من العقيدة إلى الشريعة؛ فاستهزأ بأعظم ملائكة الله سبحانه وهو أمين الوحي جبريل عليه السلام، وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبزه بترسيخ الاستبداد السياسي القرشي، ولم تسلم من نقده حتى بيعة المغاربة لملكهم بصفتها إحدى ركائز النظام السياسي المغربي ومظاهر الأصالة التراثية التي نفخر بها..!
وهنا أفتح قوسا أوجه من داخله سؤالا للملتحين الذين التحقوا بهذا الحزب مؤخرا: هل يجوز شرعا الانضمام إلى حزب يستضيف من يستهزئ بالرسل والملائكة ولا يصدر ولو بلاغا مصغرا في الاعتذار عن ذلك والتراجع؟؟
إذا كنتم صادقين في تدينكم؛ ألا تخشون الله أن يحاسبكم على إقرار هذا المنكر العظيم وأن يشملكم وعيد قوله تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون}؟
أما المعاصرة عند هذا الحزب؛ فلم يفسرها مساره إلا بما يرسخ الاستبداد السياسي الذي ترجمه إلى نوع ماكر من التحكم..
ويكفي برهانا أن نستحضر طريقة ولادة هذا الحزب ونموه وتحركه في المشهد السياسي؛ كلها مناقضة للمفاهيم السياسية الديمقراطية كما طبقها حزب العدالة والتنمية التركي.
ومن نماذج النفس التحكمي الاستبدادي في هذا الحزب؛ تصريحه سنة 2009 بأنه سيعمل على إخلاء البرلمان من أي عضو من أعضاء الحزب المنافس له..
فهل هذه ديمقراطية معاصرة؟
ومنها: أنه أغلق مقر 70 جمعية قرآنية خارج إطار القانون..
هل هذه ديمقراطية معاصرة؟
حزب يرهب الأحزاب الاصطناعية ويتحكم في كواليس تدبيرها وأهم قراراتها..
هل هذه ديمقراطية؟
حزب لا يوضح ما يلزم توضيحه بشأن شفافيته المالية..
هل هذه ديمقراطية؟
حزب يفرض نفسه على المشهد السياسي بقوة المال والنفوذ
هل هذه ديمقراطية؟
الطرق الملتوية التي يتحايل بها على الانتخابات لمحاولة تحريف نتائجها لصالحه..
هل هي من الديمقراطية؟
الطريقة التي تولى بها أمينه العام رئاسة الحزب..
هل هي ديمقراطية أم جزء من برنامج سياسي بيت بليل؟
حزب يثني أمينه العام على تجربة المستبد الإرهابي عبد الفتاح السيسي..
هل يصح أن يوصف بأنه حزب ديمقراطي؟
لست متخصصا في التحليل السياسي، لكن أستطيع أن أدرك بالملاحظة أن هذا الحزب فيه كل شيء إلا الديمقراطية؛ فعن أي معاصرة يتحدث في المجال السياسي؟!
وإذا كان الملاحظ البسيط يدرك هذا؛ فكيف بمن يوصفون بالمحللين السياسيين والنشطاء الإعلاميين؛ ومع ذلك يطبعون فكريا وسياسيا مع الحزب ويسكتون عن ممارساته اللاديمقراطية؟؟
وفي الختام أرجو بصفتي مواطنا مغربيا أن يكثر في المشهد السياسي في وطني عدد السياسيين الذين يصدقون في تبني مفهومي الأصالة والمعاصرة كما صدق في ذلك حزب العدالة والتنمية..