حول موقف الجولاني من “الاعتداءات الإسرائيلية”
هوية بريس – إحسان الفقيه*
الذين يدورون في فلك أنظمتهم العربية مِن سياسيين وإعلاميين وعلماء دين، هم أكثر الفئات تشغيبا على الثورة السورية، ونجاح المعارضة في إسقاط نظام بشار الأسد. فهناك مخاوف من انتقال عدوى الحرية إلى الشعوب، وتأجيج تطلعاتها لإسقاط الأنظمة القمعية الجاثمة على الصدور، وقلق من اعتبار سوريا نموذجا ملهِما لتلك الشعوب.
هذه الفئات التي كانت تغض بصرها عن جرائم بشار ضد شعبه، أطلقت مع بداية معارك «ردع العدوان» تحذيراتها المحمومة للشعب السوري من مغبة الفوضى، التي سيخلفها إسقاط النظام، ونعتت مقاتلي المعارضة بأنهم إرهابيون يعملون وفق أجندات صهيونية وأمريكية وتركية لتقسيم سوريا، وحثتهم على الاصطفاف خلف بشار لمواجهة هذا الحراك الإرهابي.
وبعد أن سقط النظام، شرع هؤلاء يخوفون الشعب السوري من أن في انتظاره مستقبلا مظلما في ظل حكم الإرهابيين، وأن سيطرتهم على سوريا تعني احتلال الكيان الإسرائيلي.
هؤلاء قد هشّوا وبشّوا بعد بدء الغارات الإسرائيلية، التي طالت مواقع عسكرية وأمنية، وفرض الاحتلال سيطرته على مناطق حدودية، ودمرت غاراته الأسلحة الاستراتيجية التي كان يملكها النظام السابق لمنع وقوعها في أيدي جماعات متطرفة، وفقا لوصف وزير خارجية الاحتلال جدعون ساعر، وفي هذا إقرار صريح بأن بشار الأسد لم يكن يمثل خطورة على الكيان الإسرائيلي، خلافا لما روج أتباعه ومؤيدوه. وجد هؤلاء ضالتهم في عدم حدوث أي ردة فعل عسكرية من جانب المعارضة السورية، ردا على العدوان الإسرائيلي، واتخذوا من ذلك ذريعة للتأكيد على عمالة المعارضة للإسرائيليين والأمريكيين. بعض الغيورين وأصحاب النوايا الحسنة أيضا انتقدوا صمت القائد العام لإدارة العمليات العسكرية في سوريا أحمد الشرع (الجولاني) على الانتهاكات الإسرائيلية، واعتبروها نذير شؤم لأداء الإدارة السورية المقبلة حيال العدو الصهيوني. أهم ما جاء في تصريحات الشرع لتلفزيون سوريا مؤخرا، حول الاعتداءات الإسرائيلية: التأكيد على أنه ليس هناك مبرر للإسرائيليين في العدوان بعد خروج الإيرانيين، ودعوة المجتمع الدولي إلى التدخل وتحمل مسؤوليته تجاه هذا التصعيد، ثم التأكيد على أن الوضع المنهك الذي خلفه نظام بشار في سوريا، لا يسمح بالرد على العدوان، وأن الأولوية لإعادة البناء والاستقرار. هذه التصريحات قوبلت بتهلل أسارير أعداء الثورة، وبامتعاض من قبل مؤيديها الذين رأوا فيها سمة الضعف والانهزامية.
من ينظر في تصريحات أحمد الشرع بموضوعية، يجد نفسه أمام عقلية ناضجة حيال مراعاة متطلبات الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، والنظر الثاقب في المآلات حال الانخراط في صراع مع الكيان المحتل في تلك المرحلة الانتقالية الحرجة، التي تستلزم نقل السلطة كاملة للثورة، وصياغة دستور للبلاد وبناء مؤسسات الدولة من جديد والعمل على توفير الاحتياجات الأساسية للجماهير التي طحنتها سياسات النظام السابق.
الشرع يعلم أن الاحتلال يستغل الأحداث لفرض واقع حدودي وتدمير ترسانة الأسلحة، التي كان يمتلكها جيش بشار، حتى لا تقع بقبضة النظام المقبل، كعلمه تماما أن الرد العسكري والدخول في صراع غير متكافئ في هذه الفترة الحرجة، سوف يعيد الثورة إلى الوراء، ويدفع المدنيون ثمنه غاليا تحت وطأة القصف الهمجي على غرار ما يحدث في غزة، وما يتبعه من تأثير بالغ على الشعب، من نقص الغذاء وعودة النزوح الجماعي، الأمر الذي قد يترتب عليه تمرير مخطط التقسيم.
لقد أحسن قائد إدارة العمليات العسكرية برمي الكرة في ملعب المجتمع الدولي إزاء الاعتداءات الصهيونية ـ رغم العلم المسبق بأنه لن يتحرك ضد العدو الصهيوني – لإثبات وتسجيل الحالة، وتوجيه رسالة بأن الرجل يلجأ إلى المسارات السلمية والقانونية، لأن هذا هو المناسب في هذه الفترة الحرجة، وليس العنجهية وال«حماس» المتهور، فالأسلحة يمكن تعويضها بعد استقرار الدولة، والواقع الحدودي الذي فرضه الكيان المحتل يمكن التعاطي والتعامل معه بعد ذلك سياسيا ودبلوماسيا، بل عسكريا تحت غطاء قانوني.
ربما يعترض البعض على موقفي هذا لأنه مغاير لموقفي المؤيد لانطلاق طوفان الأقصى، فالأمر مختلف تماما، في فلسطين أنت تتحدث عن احتلال لمعظم أرجاء فلسطين، على مدى عقود، لم تفلح كل المحاولات السياسية والدبلوماسية والقانونية لإنهائه، وليس للفلسطينيين دولة ذات سيادة، رغم أن الأرض أرضهم، فمن ثم ليس هنا خيارات أمام الفلسطينيين لبناء دولتهم سوى المقاومة.
أما في الحالة السورية، فإن الإسرائيليين لا يحتلون سوى مناطق حدودية، أما الدولة فهي للسوريين، الفرصة سانحة أمامهم لإعادة البناء لأن يكون لديهم جيش واقتصاد قويان، دولة مؤسسات وحقوق لا تخضع لحكم طائفي، فالاحتلال الإسرائيلي لم يكن هو العقبة في بناء سوريا الجديدة، إنما العقبة كانت في نظام بشار الفاشي القمعي. ولكن ماذا لو غامر الجولاني ووجّه القوات للدخول في حرب مع الإسرائيليين؟ لا شك في أننا سنسمع ونرى حينها السياسيين والإعلاميين أعداء الثورة يتهكمون على ذلك المختل الذي لا يفهم في السياسة شيئا، ويقامر بالشعب السوري في مواجهة محسومة لصالح الإسرائيليين، وأن مثل هؤلاء لا يصلحون سوى لإدارة الجماعات لا الدول، بينما يتحرك أصحاب العمائم وعلماء السلطان لنقد هؤلاء الصبية المتعالمين، الذين لا يفقهون شيئا في فقه المصالح والمفاسد، ولا قراءة الواقع في ضوء قواعد الفقه والتشريع الإسلامي، ويتعجلون الجهاد دون إعداد العدة. مما يثير الدهشة، أن نظام بشار الذي كان مدعوما من حلفائه الروس والإيرانيين، ولديه ترسانة أسلحة متطورة من صواريخ وأسلحة كيميائية وغيرها، لم يوجه رصاصة واحدة تجاه العدو الصهيوني الذي يحتل الجولان، ولم تطالبه الفئات سالفة الذكر بتحرير الأرض بالدخول في حرب مع الكيان الإسرائيلي، وفي كل مرة يتعرض فيها للقصف الصهيوني، لا يزيد عن قوله: «نحتفظ بحق الرد». لكنهم اليوم يطالبون حكومة انتقالية تدير البلاد على أنقاض الخراب الذي تركه بشار، بالرد على الاعتداءات الصهيونية وتحرير الجولان، وبالقضاء على «قسد»، وطرد الروس وتفكيك قواعدهم في سوريا، والتصدي لنفوذ الأمريكيين واستيلائهم على النفط من خلال قوات سوريا الديمقراطية.
سوريا عادت للسوريين، والطريق أمام إعادة البناء طويل وشاق، والمخاوف من المستقبل قائمة، لكن لا أعتقد أن السوريين سيواجهون واقعا أكثر بشاعة من وجود نظام بشار، وعليهم أن يلتفوا وراء القيادة الجديدة أيا كانت عناصرها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتبة أردنية