“خطبة الأربعاء” وغياب الحس الوطني

19 ديسمبر 2025 18:10

هوية بريس – مصطفى قرطاح

نشرتُ خطبة الأربعاء ليوم الجمعة 28 جمادى الآخرة 1447هـ الموافق لـ 19/12/2025م، وعنوانها “الحرص على أخذ العلم من أهله”، نشرتها وأنا آمل صادقا أن يتم تعويضها بخطبة أخرى أو على الأقل تعديلها، بما يجعلها خطبة تناسب ما شهده المغرب من أحداث مأساوية، وتكون بذلك خطبة دينية وطنية إنسانية، تتفاعل مع الواقع المغربي وتؤثر فيه.

جاءت هذه الخطبة في خضم أسبوع عرف فيه المغرب حدثين مأساويين؛ أولهما سقوط العمارتين بمدينة فاس، وقد خلف سقوط 22 شهيدا، وثانيهما: فيضانات آسفي، وقد خلفت 37 شهيدا على الأقل، ناهيكم عن الجرحى والآثار النفسية، والخسائر المادية هائلة.

حجم الحدثين بخسائرهما ووقْعِهِمَا يقتضي العمل على استنفار المغاربة، وإثارة ما فيهم من وازع؛ ديني، ووطني، وإنساني، وأخلاقي، للتفاعل مع الحدث ومخلفاته، وهو ما كان على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تقوم به، خلال خطبة الجمعة وما يعقبها من دروس وعظ وإرشاد، لكنها للأسف لم تفعل.

كان الحدث يقتضي الدعاء للشهداء بالرحمة والمغفرة، وللجرحى والمصابين بالشفاء العاجل، وللمنكوبين بالعوض والخلف من الله، وكان يقتضي كذلك التقدم لأسر الضحايا بالتعازي والمساواة، ودعوتهم إلى الصبر والاحتساب، تمثلا لقول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155-157]، وهو ما لم يحدث…

كان الحدث يقتضي تذكير المغاربة بأنهم أمة واحدة، وأنهم بإيمانهم ووطنيتهم كالجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فعليهم أن يظهروا من التواد والتراحم والتعاطف ما يجسد ذلك ويؤكده، لكن هذا لم يحدث.

كان الأمر يقتضي دعوة المغاربة جميعا إلى مساندة إخوانهم المتضررين، ماديا ومعنويا، تأسيا بالأشعريين الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «(إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا ‌أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)» ، وأيضا هذا لم يحدث…

كان على الخطبة أن تحث الناسَ ووسائلَ الإعلامِ على استعمال مصطلح الشهداء، عوض القتلى أو الضحايا، تصحيحا لمعتقدات الناس، وتيمنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ، سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ ‌الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ“.

كل هذه المعاني النبيلة والقيم الفاضلة لن تجد فضاء ييسر لها أن تفعل فعلها في قلب الإنسان المغربي وفي جوارحه أنسب وأفضل من المسجد، ولن تجد يوما لتستوطن في قلب المؤمن المغربي خيرا من يوم الجمعة، ولن تجد بيانا يؤصلها ويحللها أفضل من بيان خطبة الجمعة، لكن الوزارة الموقرة، وفي إطار خطة تسديد التبليغ الملهمة، كان لها رأي آخر…

رأت الوزارة الموقرة أن تتناول خطبة الجمعة موضوع “الحرص على أخذ العلم من أهله”، ولنا أن نسأل: ما الذي يمنع الوزارة أن تجعل الخطبة من الموضوعين معا، وتُعْمِلَ القاعدة المنهجية: “ما يخشى فواته يقدم على ما لا يخشى فواته”، فتجعل موضوع حدث فيضانات آسفي في الخطبة الأولى باعتبار الأهمية الاستعجالية للتفاعل معه، وتجعل موضوع أخذ العلم عن أهله في الخطبة الثانية باعتباره موضوعا منهجيا يمكن تنزيله عبر حلقات.

إن النظر في الموضوع المقرر مجردا عن كل القرائن المقالية والسياقية والحالية يقضي بالحكم بأهميته وفائدته، ولكن عند قراءته بتمعن، والسؤال عن مناسبته وسياقه، يتضح لك أن الموضوع وعنوانه يقولان شيئا آخر.

فهذا الموضوع ما هوـ في تقديري ـ إلا رد فعل مضاد، منتصر لخطبة الجمعة السابقة، التي تمحورت حول “الحرص التام على احترام اختيارات الأمة والقوانين المنظمة للحياة”، وناقم على المنشورات التي استهدفتها، وكشفت ما فيها من تلبيس وخلط متعمد بين الأحكام الشرعية والقوانين الوضعية، ولذلك اتجه الموضوع نحو لمز أصحاب تلك المنشورات بعبارات من قبيل:

– صيانة الدين من التحريف والتبديل،

– حماية الأمة من التشويش والتضليل،

– المعنى المناسب لعصرنا لعدالة أهل العلم ألا يكون علماء الأمة يدينون بالولاء والاتباع لهذا الفريق أو ذاك داخل المجتمع،

– مهمة أهل العلم، العدول بهذا المعنى المذكور آنفا، أن يدافعوا عن المنهج السليم في أخذ العلم؛ البعيدِ عن تحريف الغلاة لمعاني الشريعة ومقاصدها، وانتحالِ المبطلين من أهل الأهواء الذين يلوون أعناق النصوص لخدمة أهوائهم، وتأويلِ الجاهلين الذين ليسوا في العير ولا في النفير، وإنما تسلقوا سُلَّمَ الكلام عن الله وعن رسوله بغير علم، فيضلون ويضلون، ويفتنون الناس في دينهم، خصوصا في زمن شبكات التواصل الاجتماعي؛ فيتسورون البيوت بلا استئذان.

لو أخذ الأمر على وجهه الصحيح، لكان هذا الموضوع أولى بالتناول يوم خرج أصحاب دعوى قرآن برغواطة والأنبياء الأمازيغ يُبَشِّرُونَ المغاربة بهذه الدعوات كأنها حقائق علمية ثابتة، وما على المغاربة إلا أن يهيؤوا أنفسهم ليعبدوا الله بهذا القرآن البرغواطي ويستنوا بسنة الأنبياء الأمازيغ، ولا شك أن هذا الأمر ليس مجرد تشويش على الدين فحسب، بل هو استئصال للإسلام ونقض له من الأساس، ولكن الوزارة حينها آثرت الصمت، فهو حكمة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
15°
16°
السبت
16°
أحد
16°
الإثنين
17°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة