خطورة التساهل في تحمل الدُّيون والتهاون في أدائها

هوية بريس – نور الدين درواش

كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من الدَّين لما يعلم من خطورته على صاحبه في الدنيا وشدته يوم القيامة.
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [بمعنى: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ” متفق عليه.
قال الإمام القرطبي: “وَإِنَّمَا كَانَ شَيْنًا وَمَذَلَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْقَلْبِ وَالْبَالِ وَالْهَمِّ اللَّازِمِ فِي قَضَائِهِ، وَالتَّذَلُّلِ لِلْغَرِيمِ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَحَمُّلِ مِنَّتِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى حِينِ أَوَانِهِ. وَرُبَّمَا يَعِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْقَضَاءَ فَيُخْلِفُ، أَوْ يُحَدِّثُ الْغَرِيمَ بِسَبَبِهِ فَيَكْذِبُ، أَوْ يَحْلِفُ لَهُ فَيَحْنَثُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ”[الجامع لأحكام القرآن (3/417)].
ومع أن الجهاد في سبيل الله من أعظم الطاعات فإن الشهيد في سبيل الله مع شرفه وعظم أجره تغفر كل ذنوبه وخطاياه إلا الدين.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتَ؟
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ”رواه مسلم.
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ) رواه النسائي وحسنه الألباني.
ولهذا استفاد أهل العلم من هذا الحديث منع الرجل من الجهاد إلا ان يُؤدي دينهُ أو يأذن له صاحبه، قال الإمام الشافعي:”وَإِذَا كَانَ يَحْجُبُهُ مَعَ الشَّهَادَةِ عَنْ الْجَنَّةِ الدَّيْنُ فَبَيَّنَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْجِهَادُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِ الدَّيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ، أَوْ كَافِرٍ” [الأم(4/171)].
ومع شدة رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة وحرصه على المغفرة والرحمة لها؛ لم يكن يصلي على من عليه دين حتى يُقضى عنه دينه كما في صحيح مسلم.
وعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ : الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ، دَخَلَ الْجَنَّة“رواه الترمذي وصححه الألباني.
بل أخبر أن من كان عليه دين ولم يؤدَّ عنه فإنه يقتطه من حسناته يوم القيامة؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ” رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
وما أشبه هذا بحديث المفلس ما يشعرك بخطر الدين وأنه لا يقل خطورة عن ظلم الناس والتعدي عليهم.
فلا يجوز التساهل في تحمل الديون لمن غلب على ظنه عدم القدرة على على ردها، كما لا يجوز تحملها في السرف والكمالات، كما لا يجوز التوسع في المباحات مسكنا ومركبا ومأكلا ومشربا وملبسا، فضلا عن السفر والمتعة بل والعمرة لمن كانت عليه ديون وهو عاجز عن أدائها أو مماطل في ذلك، فإن صاحب هذا الصنيع على خطر شديد
قال ابن عبد البر: “وَالدَّيْنُ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ صَاحِبُهُ عَنِ الْجَنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً وَلَمْ يُوصِ بِهِ أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّ أو أَدَانَهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ أَوْ فِي سَرَفٍ وَمَاتَ وَلَمْ” [التمهيد(23/238-239)].
كما أنبه إلى أمر خطير يقع فيه كثير من الناس وهو توسيع المشاريع والتجارات والاستثمارات مع التماطل في أداء حقوق الناس وأموالهم، فهذا من الظلم العظيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مطل الغني ظلم” رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقال:”قال: “لَيُّ الواجِدِ يحل عِرضَه وعقوبَتَه”. قال ابن المبارك: يُحلُّ عرضَه: يُغلَّظُ له، وعقوبتُه: يُحبَسُ له” سنن أبي داود وحسنه الألباني.
وختاما أنصح كل مدين بعد بدل الأسباب بالتوجه لله عز جل وبالدعاء،
فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي.
قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟! قَالَ: قُلْ:
“اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ” رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وغيرها من الأدعية الواردة في الباب.
والله من وراء القصد، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
نسأل الله أن يفرج هم كل ذي هم وأن ينفس كرب كل مكروب وأن يقضي الدين عن كل مدين.