بعيدا عن المزايدات السياسية! وارتباطا بواقعيات الإنسان المغربي. كانت من اختياراته، أو كانت عليه مفروضة بالقسر أو بالقهر كـ”الحتمية السياسية”! فإن استحضار هذه وتلك عند التحليل، هو الذي سيبعدنا عن الانجراف اللامعقلن مع تيار الانفعالات الناجمة عن غضبة، يقف وراءها الإحساس بإدانة مبادئنا وقناعاتنا التي تجندنا، ونتجند تلقائيا للدفاع عنها، ولحمايتها بأية وسيلة متاحة، حتى ولو لم تكن مشروعة!
فباحترام الواقع نستطيع تناول موضوع خطيب سلا، الذي سالت بخصوص قضيته، قرائح حملة الأقلام بتهم هنا؟ وبدفوعات هناك؟ ونحن من جهتنا نريد أن ندلي بدلونا -على الأقل- لتبرير العنوان الذي اخترناه لهذه المقالة.
فبوقوفنا على أرضية الواقع الصلبة، نجد أن الأئمة -من منطلق الرسميات المعمول بها في بلدنا- هم نواب أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين. ومن منطلقها كذلك، نجد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، هذه المسؤولة مباشرة في شخص منفذ مخططاتها: أحمد التوفيق. والوزراء يتم اختيارهم من طرف رئيس الدولة في أنظمة، وقد يختارهم رئيس الحكومة المنتخب في أنظمة أخرى. واختيارهم في هاتين الحالتين، معناه أنهم أعوان مساعدون لرؤساء الدول. إنما لغاية خدمة الأمة من خلال تحقيق أهدافها في مختلف المجالات، بحيث إن مهمة وزير الأوقاف تنحصر في تدبير الشأن الديني من منظور الدولة بكل تأكيد! وتدبيره لهذا الملف الشائك يتم -شكليا أو ظاهريا- بمساعدة المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية الجهوية، والمندوبين الإقليميين والجهويين، التابعين حاليا للوزير الذي يصول ويجول منذ سنوات بين السياسة والدين!!! مرة عبر دروسه الرمضانية! ومرة عبر تدخلاته البرلمانية! ومرة عبر تخريجاته الصحفية المثيرة لتساؤلات لا عد لها ولا حصر!
فهل ما انتهينا من سرده للتو موجزين، محتوم الوقوع في حال المجتمع المغربي المعاصر؟ فهمنا المحتوم كمدلول علمي تجريبي في العلوم الطبيعية، وفي العلوم البيولوجية، وحتى في العلوم الاجتماعية والتاريخية، أو فهمناه كمدلول ديني إيماني عقلاني مجرد، بحيث إننا نتكلم من ناحية عن الحتمية، ونتكلم من ناحية ثانية عن القدر؟
يقول كلود برنار في “المدخل إلى الطب التجريبي”: “إن مبدأ الحتمية ضروري لعلوم الأحياء، كما هو ضروري لعلوم الفزياء والكمياء”. ويقول كذلك: “إذا عرف الطبيب المجرب حتمية المرض (يعني أسبابه القريبة)، استطاع أن يؤثر فيه تأثيرات متتابعات”. وعزل الأئمة والخطباء في رمشة عين، يكاد يكون عندنا عادة مزمنة! ولم لا يكون نوعا من المرض المزمن؟
ومن خلال كلام كلود برنار، نستطيع القول: “إن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة مقيدة بشروط توجب حدوثها اضطرارا (لا اختيارا؟)، أو هي مجموع الشروط الضرورية (لا المختارة؟) لحدوث إحدى الظواهر. أو هي القول بوجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة توجب أن تكون كل ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتقدمها أو يصحبها من الظواهر الأخرى. ومعنى ذلك أن القول بالحتمية ضروري لتعميم نتائج الاستقراء العلمي. فلولا اعتقادنا أن ظواهر الطبيعة تجري وفق نظام كلي دائم، لما استطعنا أن نعمم نتائج الاستقراء، ولا أن نحكم على البعيد بما نحكم به على القريب”! مما يعني أن مفهوم الحتمية قريب من مفهوم القدر الذي لا مناص من الإذعان له؟
وحتى لا نتيه في مناقشة هذا الموضوع الفلسفي الأخير الغارق في التجريد، نصغي إلى المقولة الآتية للفيلسوف الألماني: إيمانويل كانط: “علينا أن نضحي بالعلم في سبيل الإيمان”. يقصد العلم الميتافيزيقي العاجز عن الوصول إلى حقائق ذات بال في موضوع المطلقات. فبدلا من ضياع الوقت في مناقشة القضايا الماورائية، نسلم بها من باب التصديق الديني، ونتجه صوب البحث في مجالات معرفية أخرى مفيدة للإنسان ومناسبة لوضعه أو لمكانه في الوجود، لكونه نسبيا في كل معارفه أو مداركه!
فماذا إذن عن الحتمية؟ وما علاقتها بعزل الأئمة لمجرد خطإ يعد سياسيا في نظر المسؤولين عندنا عن الدين؟ ثم ماذا عن القدر الذي أصر خصوم الدين على نفيه أو السخرية ممن آمنوا به إيمانهم بالكل لا بالجزء؟ نقصد أن خصوم الدين المعاصرين في دولنا الإسلامية والعربية “يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض!”. إنهم يحضرون عندنا مرغمين (حتمية أم قدر؟) في المناسبات الدينية الرسمية بلباسهم التقليدي، حيث يسهمون -كيمينيين وكيساريين- في تنشيط مجلس الذكر الذي يعلو جوه البخور، ويميزه التمايل يمنة ويسرة عند أداء الأذكار أو الأمداح النبوية كما يزعم الزاعمون!
عندما يولد الإنسان، لم يكن له أن يختار اسمه ولقبه وكنيته؟ فضلا عن كون أي منا لا يستطيع أن يرى إلا بقدر ما يسمح به تركيبه البيولوجي؟ وإن كان بصره هكذا محدودا من غير اختيار منه، فمثله حاسة الشم والسمع والذوق عنده؟ بحيث يجد نفسه أمام حتميات تحيط به من كل جانب؟ أو يجد نفسه بلغة الدين وسط أنواع من القدر بتفعيلها إلهيا يتحرك؟ دون أن يملك القدرة على تغييرها؟ إنه محاصر بحتمية تاريخية، وحتمية اجتماعية، وحتمية سياسية، وحتمية اقتصادية. وقبلها فور ولادته بحتمية فيزيولوجية، وحتمية فزيائية؟ ثم بعدها -وهو ماض في النمو الجسدي والنفسي- بحتمية نفسانية وعقلانية!
وحال الخطيب المعزول كحال المتشبثين -إن كلا وإن بعضا- بقناعات علمانية واعية أو غير واعية على وجه التحديد. إنهم قد اختاروا ما اختاروه، وهو قد اختار ما اختاره -وهذا من حقه- فإن تأكد لدى علماء الطبيعة بعد أبحاث مضنية أن الإنسان خلق من سلالة من طين، وتأكد لدى علماء البيولوجيا، أو لدى علماء الوراثة، كيف أنه يمر بمراحل في بطن أمه قبل اكتماله بشرا سويا. وصح أن هؤلاء وأولئك في أبحاثهم العلمية التجريبية، لا يخالفون ما ورد في الذكر الحكيم بخصوص الموضوعين المذكورين، فإن الإمام خطيب سلا الذي اطلع على هذه المقاربة العلمية، أو لم يطلع عليها، مقتنع تمام الاقتناع بأن الله تعالى يتصرف في ملكه كما يريد. ونحن في الأرض نتصرف فيما نمتلكه كما نريد أن نتصرف فيه، إن لم تضبط قوانين محددة تصرفاتنا بقيود صارمة، تصل إلى حد الحتمية! نظير التي يتقيد بها وزير الأوقاف كلما أقدم على عزل إمام أو خطيب، أو عضو في المجلس العلمي هنا وهناك!!!
فإن كانت الطبيعة قائمة على قوانين تخضع لها، أي أنها قائمة على حتمية ضرورية، هي وحدها التي تسمح لنا بفهمها، فمعناه أن العلماء التجربيين في كافة الميادين العلمية يرفضون الصدفة، أي أنهم لا يؤمنون بها على الإطلاق، وكأنهم ملزمون بتأكيد قوله تعالى: “ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا“. وقوله سبحانه: “سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا“. والقدر هنا حتمية! والمقدور هنا محتوم! والعلوم على الحتمية كما رأينا تقوم.
فقد طلع علينا العالم البريطاني فريد هويل الاختصاصي في علم الفضاء بداية عام 1984م بكتاب تحت عنوان “العقل الكوني”. هذا الكتاب عارض فيه “فكرة “الصدفة” في تكوين الحامض الأميني والبروتين والحامض النوكلييك، فقال: إن “العقل الكوني” هو الذي أنشأ الحياة على الأرض، وخلق الذرات العضوية من مواد أولية كيماوية بسيطة وغير عضوية موجودة في التراب”. ولم يبق له غير أن يسمي الأشياء بمسمياتها، لو هو اطلع على قوله تعالى: “ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون“! وهو ما اقتنع به خطيب سلا المعزول، كما اقتنع بأنه سبحانه -كفاعل مختار- لا يسأل عما يفعل، حيث أراد، ومتى أراد! حتى مع القبول جدلا بكونه تعالى خلق الكون وسن له قوانين تضبط سيره، بما فيه وجود براكين واحتمال حدوث زلازل وعواصف مدمرة دون ما تدخل منه، فإن فشل تنبؤاتنا، يجعلنا في حيرة من أمرنا! فإن عرفنا شروط نزول المطر، وتنبأنا بنزوله غدا صباحا، لكن شرطا من شروط نزوله تغير فجأة، كتغير اتجاه الريح التي تدفع السحب في اتجاه بلادنا، فلا بد أن نسأل عن السبب وراء تغير اتجاهها! أو ليس من ضبط قوانين الكون هو ذاته الذي تدخل أزلا بعلمه وإرادته وقدرته لتغيير مجرى الرياح والضغط الجوي الذي يصبح مرتفعا بعد أن تنبأنا نحن بانخفاضه؟ دون أن نتدخل هنا في مناقشة موضوع علمه عز وجل؟ والحال أن اعترافنا بأنه سن للكون قوانينه، هو اعتراف بأنه موجود، وأن غيره لم يسن تلك القوانين؟ واعترافنا بسنها، اعتراف بقدرته المطلقة دون ما قيود؟ ووراء الاعترافات المتقدمة، يطرح هذا التساؤل: كيف ندعي عزله عن إدارة شؤون كون هو واضع قوانينه وضوابطه القائمة على الحتمية كما انتهى علماء الطبيعة إلى هذه الحقيقة العلمية التي لدينا عليها أكثر من دليل تجريبي محسوس؟
مع العلم بأن كتاب الله العزيز، مليء بأمثلة تخبر عن أقوام تعرضوا لعذاب الله وسخطه، وهذا من باب الإيمان بكتاب الله الذي يعني التصديق بكل ما ورد فيه بدون ما شك. فإن أتى خطيب سلا بما أتى به، فلغيرته على دينه الذي ألقي به ظهريا بخصوص تسيير شؤون دولة ينص دستورها على أنها مسلمة؟ وأن الله تعالى يمهل ولا يهمل. وأن من حقه أن يتصرف في ملكه. وأن يزلزل الأرض هنا أو هناك كما شاء! أو يرسل الأعاصير هنا وهناك وقتما أراد! ويرسل السماء مدرارا علينا حسب إرادته ومشيئته! ويوقف نزول الغيث أو الأمطار باختياره مكانا وزمانا! ويخبرنا بأن المفسدين في الأرض قديما كعاد وثمود وقوم لوط، تعرضوا لعقابه، وأن توقيت عقابه لا يحدده غيره، وأن هذا منطق الدين الحق عند المؤمنين المخلصين! وأن العلوم المتطورة عاجزة حتى الآن عن منع الزلازل، وعن تأخير قيام أعاصير تأتي على الأخضر واليابس! وأن عجزها ترجمة مباشرة لعجز الإنسان في الماضي عن التنكر لقدرة الله التي لا تحدها حدود! وخطيب سلا المعزول ليس هو أول خطيب تم عزله من طرف وزارة الأوقاف، الحريصة على مجاراة رغبات جهات، يهمها أن لا يرفع حتى صوت الأذان على الصوامع! وكأن هذه الجهات استمرار، أو هم تلامذة الجزائري الراحل “كاتب ياسين” الذي شبه المؤذنين بـ”كلاب الدوار”! وما نتوقع أن يشبه به الأئمة أدهى وأمر!!!
وليكن مفهوما إذن لدى السيد وزير الأوقاف، أن الظلاميات التي يحيطها برعاية تامة، والتي كان من المفروض أن تمحى من سجل الإسلام الذي يتولى تدبير شأنه، هي التي ينبغي تخليص الشعب المغربي كله من شرها المشوه لديننا الحنيف! أما أن نعزل الأئمة المنددين بالمنكرات والفواحش المعلنة في وضح النهار، فإجحاف لا بد من الكف عن ممارسته. إذ عزل أئمة لكونهم ينتقدون ما يجري، يعتبر ظلما فاحشا توقيفه واجب ديني، وواجب سياسي، وواجب أخلاقي، وواجب وطني، وواجب إنساني!!! وإلا فما المانع من تحذير جماعات تبيح زرع السموم والاتجار فيها؟! ثم ما المانع من تذكيرها بغضب الله وسخطه؟! وهي نفس الجماعات التي وصفها الراحل الحسن الثاني بـ”الأوباش”!!! ثم لا يأبى الخصوم إلا تشويه سمعة بلادنا المتهمة بالمشاركة في قتل ملايين البشر بواسطة سموم مخدرة، هي أولا محرمة في الدين قبل تحريمها بقرارات دولية، تقضي بمحاربة جميع أنواعها مهما تكن مصادرها؟ يكفي أن تطلع علينا جريدة مغربية في صفحتها الأولى يوم 25 فبراير من سنتنا هذه (2016م) بهذه العبارة الخادشة لكرامتنا في العمق: “الحشيش المغربي ينعش خزائن شبكات المخدرات في فرنسا”.
ففي الوقت الذي حرص الإمام المعزول على تنبيه المنتجين والمتاجرين في المخدرات، بالتعبير الذي اختاره -وإن كان قاسيا بعض الشيء- وقف خصوم الخطاب الديني في صف واحد للمطالبة برأس الإمام الذي لم تعزله غير “الحتمية السياسية” المصنوعة المفروضة! هذه التي انحنت، ولا تزال تنحي أمامها رؤوس الزعامات السياسية التي لا تفتأ تغني، وتتغنى بالعصرنة والتقدمية! قبل أن ينحني أمامها الخطيب المعزول تعسفا وإذلالا! إذ طالما انحنى أمامها قبله مناضلون ومعارضون ممن ذاقوا الأمرين على يد ممثليها! فضلا عن كون العارفين بسياسة الحكام، يدركون تمام الإدراك ما الذي نعنيه بـ”الحتمية السياسية” كمقولة يخضع لها من ألحوا على عزل الإمام منذ عقود، ثقيلة حمولتها السياسية على الأبدان والنفوس والعقول!!!