د. بنكيران يكتب: الآراء الشرعية للمجلس العلمي الأعلى حول مقترحات جديدة لمدونة الأسرة.. قراءة نقدية
هوية بريس-د.رشيد بنكيران
أصدر المجلس العلمي الأعلى رأيه الشرعي بشأن مجموعة من المقترحات المتعلقة بمراجعة مدونة الأسرة. وللأسف الشديد، فقد اتسمت هذه الآراء بضعف واضح في العمق العلمي، وابتعاد ملحوظ عن النَّفَس الفقهي الذي يُفترض أن يميز مؤسسة عُلَمائية بهذا المستوى.
هذا الواقع يثير تساؤلات جوهرية حول مدى شرعية ما يصدر عن المجلس العلمي ونسبة آرائه للاجتهاد الشرعي في الدين، ومدى صحة الحكم بآرائه تدينا. وهي تساؤلات مشروعة تحتاج إلى وقفة متأنية في مناسبة أخرى.
وفي هذا المقال، سأتناول قراءة نقدية موضوعية لبعض هذه الآراء، بعيدا عن الاعتبارات الشخصية، سعيا إلى تحقيق الوضوح وإبراز الحقائق العلمية والشرعية.
◆ 1. بيت الزوجية ليس ملكًا فقط للزوجة:
من بين القضايا التي أثيرت في إطار مراجعة مدونة الأسرة، يأتي موضوع “السكن الرئيسي” أو ما يُعرف بـ”بيت الزوجية”. فبموجب رأي المجلس العلمي الأعلى، سيتقرر أن السكن الرئيسي لن يُعتبر جزءا من تركة المتوفى، مما يعني تخصيصه للزوجة دون بقية الورثة.
هذا الرأي يثير إشكالات شرعية واضحة، إذ يخالف مبدأ توزيع التركة وفق الأحكام الإلهية الثابتة. ونحن لا نشك أن من سوّغ لنفسه جعل عقد الزواج سببا بذاته لانتزاع بيت الزوجية من تركة الميت ومنع الورثة من حقوقهم المشروعة، فقد افترى على الله الكذب وحرف شريعته العادلة.
إن تخصيص السكن للزوجة، دون اعتبار للورثة الآخرين، يفتح بابا للتضارب والمظالم. وبناء على ذلك، نطالب المجلس العلمي الأعلى بإظهار الدليل الشرعي الذي استند إليه في إصدار هذا الرأي الشاذ المنكر، حتى يكون الأمر واضحا لمن أراد اتباع الحق، أو لمن أراد الخروج عنه؛ ليحيى من حيّ على بينة، أو ليهلك من هلك على بينة. قال الله تعالى: {قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ}.
إن هذا الرأي ليس فقط افتئاتا على شرع الله المحكم، بل إنه يتعارض مع المصلحة الجلية التي يدركها الإنسان البسيط، فضلًا عن العالم المتخصص. ويمكن توضيح ذلك من خلال الأمثلة التالية:
– توفي أب أسرة وترك بنتين من امرأة توفيت قبله، وزوجة ثانية كان قد تزوجها لاحقا، فهل يُعطى السكن الرئيسي للزوجة الثانية باعتباره بيت الزوجية، بينما تُترك البنات بلا مأوى!!؟
– ماذا لو توفي رب الأسرة وترك أمه وأخته وزوجته تحت سقف واحد؟ فما مصير الأم والأخت في هذه الحالة؟
إن الأمثلة على هذا التضارب كثيرة ولا تُحصى، وقد ضل وأخطأ كل من خالف الشريعة الواضحة والمحجة البيضاء.
وبالمناسبة، تسمية السكن الرئيسي بـ”بيت الزوجية” تنطوي على محاباة واضحة للمرأة، والأدق تسميته “بيت الأسرة” لو كنتم صادقين.
◆ 2. ديون الزوجين التزامات مشتركة:
من بين الآراء التي صدرت عن المجلس العلمي الأعلى اعتبار ديون الزوجين التزامات مشتركة بشكل مطلق، وهو رأي ليس له أساس شرعي واضح، بل يتعارض مع المبادئ الشرعية الآتية:
– مبدأ الاستقلال المالي: لكل من الزوج أو الزوجة ذمة مالية مستقلة، فلا يتحمل أحدهما ديون الآخر إلا برضاه. والقاعدة الفقهية تقول: “الأصل براءة الذمة”.
– مبدأ العدالة: إلزام المرأة بسداد ديون زوجها، أو العكس، يُعدّ ظلما إذا لم يكن برضا الطرفين. قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}.
– مبدأ قاعدة “الغُرم بالغُنم”: تقضي القاعدة الفقهية بأن من استفاد من المال أو تسبب في الدين هو المسؤول عنه، وليس غيره، حتى لو كانت بينهما علاقة زواج.
هذا الرأي، بالإضافة إلى مخالفته للأصول الشرعية، تترتب عليه لوازم فاسدة، تتجلى بوضوح عند إسقاطه على أمثلة واقعية. على سبيل المثال:
رجل متزوج قرر الدخول في مشروع تجاري استلزم اقتراض مبالغ مالية والتوقيع على شيكات ضمانا للدين. لكن المشروع فشل، وعجز الزوج عن الوفاء بالشيكات، مما أدى إلى عقوبة قانونية. فبمقتضى اعتبار الديون التزامات مشتركة، ستُحمّل الزوجة نفس تبعات فشل المشروع، بما في ذلك تلك العقوبات القانونية، رغم أنها لم تكن طرفا في القرار.
هذا الوضع يُلحق ضررا بالغا بالزوجة دون وجه حق، وينافي مبدأ العدالة الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية، والتي تؤكد على استقلال الذمة المالية لكل من الزوجين، وتحصر المسؤولية فيمن تسبب بها، سواء كان زوج أو زوجة.
◆ 3. تبسيط مسطرة التطليق وتشديد القيود على التعدد ورفع سن الزواج:
يعاني المغرب من ارتفاع نسب العزوف عن الزواج، مع نسبة عنوسة تصل إلى 40% بين النساء أو أكثر، وانخفاض معدل الخصوبة إلى أقل من مستوى تعويض الأجيال. ورغم ذلك، يصدر عن المجلس العلمي الأعلى آراء تزيد من تفاقم هذه الظاهرة المشينة الخطيرة، ذلك من خلال:
– التشديد على تعدد الزوجات، بحصر إباحته في حالات استثنائية كعقم المرأة أو مرضها الشديد.
– رفع سن الزواج، دون اعتبار للواقع الاجتماعي.
– تسهيل التطليق بدل السعي إلى حلول عملية للتوفيق بين الزوجين.
إن هذه الآراء الصادرة من المجلس العلمي الأعلى تفتقر – بشكل قطعي – إلى النظر المصلحي الشرعي الصحيح، إذ إنها لم تراع الواقع الديمغرافي والاجتماعي الذي يعاني من شيخوخة سكانية مقلقة في المآل، وضعف معدلات الإنجاب، وتعميق ظاهرة العنوسة التي تضر بالمرأة قبل الرجل.
إن الاعتماد على هذه الآراء يزيد من تعقيد معضلات الأسرة بدلا من حلها، مما يستوجب إعادة النظر فيها بما يتوافق مع المصلحة العامة، بعيدا عن الاستجابة لضغوط خارجية معروفة، خاصة أن من يُصدر هذه الآراء يتحدث بلسان الشرع ويُوقّع عن رب العالمين.
#وختاما:
إن ما صدر عن المجلس العلمي الأعلى من آراء بخصوص مدونة الأسرة يثير جدلا شرعيا واجتماعيا عميقا. هذه الآراء، إذا تم اعتمادها، فهي تخالف الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة ومبادئ العدل والمصلحة الحقيقية، وتفتح الباب لمصير بئيس نراه نتائجه في المجتمع الغربي الذي سبق وتبنى أطروحات تشبه هذه الآراء.