د. رشيد بنكيران: حوار هادئ مع من سمح بالتبشير المسيحي في العلن في بلاد المغرب بين المسلمين
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
في لقاء مع جريدة (Telquel عربي) بتاريخ الجمعة 31 غشت 2018 وُجّه لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد الريسوني سؤالٌ مفاده: “لماذا يمنع التبشير في المغرب، في الوقت الذي يتم نشر الإسلام في دول أوروبا وأمريكا؟”
فكان رده على هذا السؤال الموجه إليه في غاية النكارة والغرابة، إذ ذهب إلى وجوب السماح بالتبشير المسيحي في العالم الإسلامي وعدم منعه ، معللا جوابه بأمرين اثنين؛
– الأول منهما: المعاملة بالمثل؛ فمثلما يسمحون لنا بالتبشير الإسلامي العلني في أوروبا ينبغي أن نسمح لهم بالتبشير المسيحي العلني في العالم الإسلامي كما قال.
– الثاني: أن السماح بالتبشير المسيحي في العلن سيكون في مصلحة المسلمين إذ سيواجَه برد فعل مباشر من الجهات التي ينتمي إليها الشخص المعني (أي الذي تنصر)، وسيتوقف التبشير اجتماعيا ومجتمعيا. وسيخدم كذلك إسلامية الدولة حيث سيتدخل المجتمع والأقارب وجميع المؤسسات ويتحملون مسؤوليتهم إذا ما كان التبشير والتنصير علنا دون الحاجة إلى تدخل وزارة العدل أو وزارة الداخلية.
• بداية الحوار
لعلكم ـ أيها القراء ـ تستنكرون معي وتستغربون هذا الجواب من فضيلة العالم المقاصدي، أما وجه النكارة فيه فإنه يُفترض في العالم بالشرع حينما يتكلم في الدين أو في الأحكام الشرعية أن يبني كلامه على الأدلة الشرعية، فهي التي تقوده إلى معرفة الحق أو الصواب وترشده إلى حكم الله فيما يبحث عنه ، والقول بوجوب السماح بالتبشير المسيحي في العالم الإسلامي وعدم منع الدعوة إلى النصرانية بين المسلمين حكم شرعي سينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فالحكم الشرعي أو التكليفي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييرا، فنحن نتساءل عن الأدلة الشرعية التي استند إليها فضيلة الشيخ المحترم وقادته لينسب هذا الحكم إلى الله سبحانه وتعالى.
• هل المعاملة بالمثل هي الدليل؟
ذكر الشيخ أحمد الريسوني أنه مثلما يسمح المسيحيون بالتبشير بالإسلام يجب أن يسمح المسلمون بالتبشير بالمسيحية، فلابد من المعاملة بالمثل، كأن الشيخ فيما ذهب إليه يستند إلى قاعدة فقهية مقررة ومبدأ مؤصل. وقبل بيان خطأ هذا الاستدلال أو التعليل، فإن المعاملة بالمثل جاء ذكرها في القرآن الكريم ، ولهذا يحسن بنا أن نتعرض لها بالبيان قدر المستطاع، ونجعل هذا البيان توطئة لمحاورة الشيخ فيما ذهب إليه.
قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]،
في هذه الآية الكريمة شرع الله سبحانه وتعالى للمسلمين أن يقتصوا من الكافرين الذين اعتدوا عليهم بقدر ما صدر منهم من عدوان واعتداء في حق المسلمين، ولا يجوز لهم أن يزيدوا على ذلك، فطلَب الشرعُ من المسلمين مماثلة العقاب في مقابلة اعتداء المعتدي، فالمماثلة هنا بيان لصفة المقاصة المأذون بها شرعا، لأن في الغالب لا تقف النفوس على حد المماثلة إذا رُخّص لها في المعاقبة لطلبها التشفي، ولهذا ناسب أن تختم هذه الآية الكريمة بأمر لزوم تقوى الله ، والتي هي الوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها.
والمعاملة بالمثل المذكورة في الآية الكريمة جاءت في سياق عقاب المعتدي، وقد تكرر ذكرها في مواضع من القرآن الكريم لفظا ومعنى، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وفي قوله : {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60]، وفي قوله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [الممتحنة: 11]،
ومعنى بلفظ جامع كما في قوله تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].
وإذا تأملنا المعاملة بالمثل في العقاب عند العدوان في هذه الآيات سنجدها خادمة لمقصد العدل ومنسجمة معه والذي هو من المقاصد الكلية للدين.
• المعاملة بالمثل في مجال الدعوة إلى العقائد والأديان
يجب أن نعلم أن المعاملة بالمثل ليس مرادة لذاتها، وإنما هي مرادة لغيرها ووسيلة خادمة لمقصد أعظم وهو العدل عند تطبيق القصاص كما سبق الإشارة إليه، فإعمال هذه الوسيلة في غير ما شُرعت له أو في غير مجالها هو تحريف لها وإخراجها عن المقصود من تشريعها، كما وقع هنا حينما أُريد إعمالها في مجال الدعوة إلى العقائد والأديان ، فأن تكون المعاملة بالمثل مستندا ودليلا على سماح الدعوة إلى الكفر ، فهذه لإحدى الكُبر، ذلك:
أن الله عز وجل أنزل كتبه وأرسل رسله لأجل دعوة الناس إلى الإيمان به وإلى التوحيد، وشَرَع للمؤمنين به بذل النفس والنفيس لتبليغ رسالته وكلامه، ومدحهم وأثنى عليهم إذا فعلوا ذلك وأثابهم عليه، فكيف يعقل ويسوغ أن يشرع الله وسيلة ـ المعاملة بالمثل في الدعوة إلى العقائد والأديان ـ لتقويض مراده الشرعي من بعثة الرسل وإنزال الكتب.. فالمعاملة بالمثل هنا ما هي إلا إذن شرعي من الله إلى الدعوة إلى الكفر والشرك، تؤول هذه المماثلة إلى جعل إذن الله الشرعي الأول يعارض إذنه الشرعي الثاني، والإرادة الشرعية تعارض الإرادة الشرعية، فهو تناقض صريح وعبث ينزه عنه الإنسان العاقل فضلا عن الله الحكيم العليم واللطيف الخبير.
علاوة على ذلك، فإن حفظ الدين مقصد من أعظم المقاصد الضرورية، بل هو أعلاها على الإطلاق، ولحفظه شرع الله سبحانه وتعالى مراعاته من جانب الوجود؛ ويكون ذلك بإقامة ما يدعم أركانه ويثبت قواعده، ومن أهمها الدعوة إلى الإيمان بالله. وشرع كذلك مراعاته من جانب العدم؛ ويكون ذلك بما يدرأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقع فيه، ومن أهم ما يحقق ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسكات قول الباطل وإضعافه.
فكيف يتسنى لنا شرعا أن نمكن النصارى من الدعوة إلى التبشير بين المسلمين لأنهم سمحوا لنا بالدعوة إلى الله بينهم، ونجلب بأنفسنا الاختلال المتوقع في دين الناس وتدينهم بدعوى المعاملة بالمثل، فأي مماثلة هذه ؟؟؟.
• فرق جوهري بين المسلمين وبين من سمحوا لنا بالتبشير الإسلامي عندهم
من الأمور التي يجب أن ننتبه إليها أن هناك فرقا جوهريا بين المسلمين وبين الغرب، ذلك، أن الغرب الذي أذِن بالتبشير الإسلامي في أرضه وبين صفوف المواطنين لديه يرى أن مسألة الدين مسألة خصوصية وثانوية، وهي في الدرك الأسفل من أولوياته ، بل الحضارة الغربية الحديثة قامت على أساس اللائكية والتي هي “لا دين”، ولهذا هم سمحوا بجميع أنواع التبشير الذي عرفه الإنسان حتى بالتبشير بعبادة الشيطان وليس فقط بالتبشير الإسلامي. أما المسلم فإن مسألة الدين عنده مسألة أساسية وجوهرية، بل جوهر حياته هو الدين وعبادة الله معبوده الحق، فأنى يستويان مثلا؟؟؟
أنهي هذا الجزء من الحوار بضرب مثال عن سوء تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل إذا خرج عما شُرع لأجله، فهل يجوز لنا مثلا أن نقرضهم بالربا مثلما هم يقرضوننا بالربا، من باب المعاملة بالمثل!!؟
وأعود فأقول إن المعاملة بالمثل ليس مرادة لذاتها ولا هي محمودة مطلقا، وإنما يتحدد صلاحها وقبولها شرعا ومدحها في الموضوع الذي يطلب المماثلة فيه. ولهذا، لابد في أي مسألة نريد المعاملة بالمثل فيها مع غير المسلمين أن نطلب شاهدا لها ودليلا من الشرع.
بقي أن أبين وجه الغرابة فيما ذهب إليه الشيخ الدكتور أحمد الريسوني وهو المتعلق بالأمر الثاني من استدلاله المذكور أعلاه، وسيكون ذلك في مقال آخر إن شاء الله تعالى.
بارك الله فيك شيخنا الجليل و زادك الله علما .