سلسلة أنواع القلوب (27) القلب الورع (1)
هوية بريس – د. محمد ويلالي
بعد الحديث عن “القلب العزيز” في أقسامه الأربعة، ننتقل اليوم ـ بإذن الله، وضمن سلسلة “أنواع القلوب” في جزئها السابع والعشرين ـ إلى أحد أهم هذه الأنواع، مما صار وجوده اليوم عزيزا، والوقوف على أصحابه نادرا، حين يتنزه القلب عما لا بأس به، حذرا ممّا به بأس، فيستغني بالقليل، ويكتفي بعطاء الجليل. حين يترفع عن التهافت، ولا يضيره ـ عند المقارنة ـ التفاوت، فيقمع شهوة الشَّرَه، ويرد داعي الوَلَه. يعلم أن الأرزاق مقسومة، وأن الحظوظ موسومة، وأن الآجال مرسومة، وأن ما أصاب ما كان ليخطئ، وأن ما أخطأ ما كان ليصيب. إنه “القلب الوَرِع”، مضمارُ امتحان النفوس بالاصطبار، وميدانُ تسابق القلوب عند الاختبار.
يدل الورع ـ في اللغة ـ على الكف والانقباض. والقلب الورع، هو التقي المتعفف المتحرج. والمقصود: التورع عن المحارم، والتحرج من ارتكابها، وهذا أصل الاستعمال، ثم انتقل إلى الكف عن بعض المباح والحلال خشية الوقوع في الحرام. قال المناوي: “الورع: ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك”. وقال ابن القيم: “هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة”. وقال الجرجاني: “هو اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات”.
وقسم العلماء الورع إلى ثلاثة أقسام:
ـ واجب، وهو الإحجام عن المحرمات، وهو متعلق بجميع الناس.
ـ مستحب، وهو التنزه عن الشبهات.
ـ فضيلة، وهو الكف عن كثير من المباحات، سدا لباب المحرمات، وهي منزلة خَواص العباد والأتقياء.
ولقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيمة الورع في الإسلام، ورفع من مكانته حتى جعله خير الدين فقال: “فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينِكُمُ الورع” صحيح الترغيب. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصاياه لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: “كن ورعا تكن أعبد الناس” صحيح سنن ابن ماجة. وحث ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تمثل الورع، وسلوك سبيل التعفف والتنزه، وجَعَل أَمارة ذلك أن يَحِيك أمره في صدرك، وتخشى اطلاع الناس عليه، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ” مسلم.
وقال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: “لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ” البخاري. وحقيقته أن تترك في خلوتك ما خفت أن يراه الناس منك، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “ما كرهتَ أن يراه الناس منك، فلا تفعله بنفسك إذا خلوتَ” صحيح الجامع، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل؛ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: “إنك لَن تدَع شيئًا للهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ إلا بدَّلك اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه” الصحيحة.
وقد يكون الأمر من الشبهات التي اختُلف في حكمها، فلم يُقطَع بحلالها أو حرامها، فالأَولى التورع عن اقتحامها، والترفع عن تعاطيها، مخافة رجحان تحريمها أو كراهتها. وفي ذلك حديث النعمان بن بشير، الذي يقول فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فقد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ” متفق عليه. وليس هو إلا القلبَ الورِعَ العفيفَ.
فليس من الورع أن يحتوش الإنسان المال بكل سبيل، لا يدري أحلال هو أم حرام، لا يتحرى في مصدره، ولا يسأل أهل العلم عن حله. لا يتيقن من سلامة البيع أو الشراء إذا باع أو اشترى، ولا من شرعية المعاملة من رهن، ومبادلة، وكراء. قال عبد الله بن المبارك: “لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف”. وقال الخطابي ـ رحمه الله ـ: “كلّ ما شككت فيه فالورع اجتنابه”.
واعجب لهذه القصة التي يرويها لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بيانا لحال الورعين الحقيقيين، الذين لم يملأ المال قلوبهم، ولم يحجبهم عما يثقل ميزانَ حسناتهم. رو ى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ. وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا. فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ. وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا”.
وليس من الورع تكفف الناس واستجداؤهم، مع القدرة على الكسب والعمل. فقد رأينا بعض الشباب ممن لهم القدرة على الكد والكسب، يتقاعسون عن طلب الرزق، ويتكاسلون عن السعي، ويبغون المال بلا تعب ولا كلل. يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ الله بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ” البخاري.
وليس من الورع أن يتأفف العامل من قلة أجرته التي ارتضاها يوم العمل، فيوهمَ نفسه أنه يشتغل بما يقتضي أكثر من أجرته، فيبحث عن طرق تحصيل المال بالرشوة، والغش، والتزوير، والوساطات المأجورة. فقد اشتهر عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أنه كان تُسرج له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها، وأسرج عليه سراجه. وقال لامرأته يومًا: “عندك درهم أشتري عنبًا؟” قالت: لا. قال: “فعندك فلوس؟” قالت: لا، أنتَ أمير المؤمنين، ولا تقدر على درهم؟ قال: “هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم”. فكيف بمن يسترخص استعمال أجهزة الدولة في مصالحه الشخصية والعائلية، كسيارة الدولة، وهاتف الدولة، وكهرباء الدولة، وأوراق الدولة، وأقلام الدولة، وما هي في النهاية إلا أمانة أودعتها الدولة عنده ليحفظها باستعمالها في مصلحة الناس، لا في مصلحته هو؟ قال إبراهيم النخعي: “إنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَفُضُولُ الْمَالِ”.
ليس الظريف بكامل في ظُرفه *** حتى يكون عن الحرام عفيفا
فإذا تورع عن محارم ربــــــه *** فهناك يُدعى في الأنام ظريفا
وليس من الورع تعالي العالم بعلمه، وترفعه عن مخالطة ضعفاء الناس، وإجابة دعواتهم، وقضاء حاجاتهم، والإجابة عن أسئلتهم. فحقيقة العلم هي الورع. قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: “أفضل العلم الورع والتوكل”.
ومن باب أولى أن يطوف العالم بعلمه على أفنية الأغنياء، ويطرق أبواب الوجهاء، يبغي المكانة عندهم، ويرجو نوالهم وعطاياهم، فيصير العلم مطية للدنيا، وليس قنطرةً للآخرة. قال أبو حازم: “لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِمًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: لَا يُحَقِّرُ مَنْ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ، وَلَا يَحْسُدُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَأْخُذُ دُنْيَا”. وقال الحسن البصري: “الْفَقِيهُ: الْوَرِعُ الزَّاهِدُ، الْمُقِيمُ عَلَى سُنَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الَّذِي لَا يَسْخَرُ بِمَنْ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلَا يَهْزَأُ بِمَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ حُطَامًا”. وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: “زِينَةُ الْعِلْمِ الْوَرَعُ وَالْحِلْمُ”.
وليس من الورع إظهار التعبس للناس، وتصعير الوجه لهم، واللهج بسب الدنيا، والإكثار من رمي الناس بالجهل والبعد عن الدين. قال الغزالي: “ليس الورع في الجبهة حتى تُقَطَّب، ولا في الوجه حتى يُعَفَّر، ولا في الخدِّ حتى يُصَعَّر، ولا في الظَّهر حتى ينحني، إنَّما الورع في القلب”. فكثرة العبادة وحدها لا تدل على حقيقة التقوى، وارتياد المساجد وحده لا يدل على كمال الصلاح، حتى يستحكم الورع من النفس. قال حبيب بن أبي ثابت: “لا يُعجبْكم كثرةُ صلاة امرئ، ولا صيامه، ولكن انظروا إلى وَرَعِه، فإن كان وَرِعا مع ما رزقه الله من العبادة، فهو عبدٌ لله حقّا”.
تَـوَرَّعْ ودع ما قـد يَريـبـك كلَّــــه**جميعا إلى ما لا يريبــك تسلـــمِ
وحافظ على أعضائك السبع جملة**وراع حقوق الله في كل مسلـــمِ