سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الخامس: نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق (تابع)

06 أكتوبر 2024 21:46

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد؛

فقد تقدم معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انتقد المنطق في أربع مقامات، اثنان منهما يتعلقان بالتصورات، واثنان بالتصديقات، وسأعرض في هذا المقال إلى المقام الثاني من المقامين المتعلقين بالتصورات:

وهو ادعاء المناطقة أن “الحد يفيد العلم بالتصورات”؛ وقد فَنَّد شيخ الإسلام دعواهم من تسعة وجوه اخترت منها خمسة يحصل بها المقصود:

1-الوجه الأول: “أنَّ الحَدَّ مجردُ قَوْلِ الحَادِّ وَدَعْوَاهُ، فإنه إذا قال: حَدُّ “الإنسان” -مثلا- أنَّه “الحيوان الناطق” أو “الضاحك”، فهذه قضية خبرية، ومُجَرَّدُ دَعْوَى خَلِيَّةٍ عن حُجَّة، فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول، وإما أن لا يكون: فان كان عالما بذلك؛ ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن لم يكن عالما بصدقه؛ فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله؟! فقد تبين أنه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود”([1]).
قلت: خلاصته أن الحد هو قول الحادِّ، فسامعُ الحدِّ: إما أن يكون عالما بالمحدود متصورا له قبل سماع الحد أو لا:

فإن كان متصورا له قَبْلًا؛ لم يُفِدْهُ الحدُّ علما زائدا،

وإن لم يكن متصورا له قَبْلاً؛ فالحد بالنسبة له قولٌ مُجَرَّدٌ عن الدليل، مِنْ قائل غير معصوم، فلا يفيده علماً بالمحدود أيضا.

2-الوجه الثاني: “أنهم يقولون: الحد لا يُمْنَع ولا يقوم عليه دليل، وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة، بخلاف القياس، فانه يمكن فيه الممانعة والمعارضة. فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد؛ امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جَوَّز عليه الخطأ، فإنه إذا لم يَعْرف صحة الحد إلا بقوله- وقوله محتمل للصدق والكذب- امتنع أن يعرفه بقوله. ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد، الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ، والصدق والكذب، ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد، الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم…” ([2]).

قلت: خلاصته أَنَّ الحَدَّ خَبَرُ الحَادِّ، وهو من باب خبر الواحد، وهم لا يقبلون خبر الواحد في السمعيات، فكيف يقبلونه في العقليات؟!

3-الوجه الثالث: ” أن يقال لو كان [ الحد ] مفيدا لتصور المحدود؛ لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرَّف المحدود قبل العلم بصحة المعرِّف، والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود؛ إذ الحدُّ خَبَرٌ عن مُخبَر] عنه [هو المحدود، فمن الممتنع أن يُعْلَم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه، من غير تقليد المخبِر وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبَر، والمخبَر] عنه [ ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة”([3]).

قلت: خلاصته أنه لا سبيل نعرف به صحة الحد-من غير تقليد للحاد- إن لم يكن عندنا علم بالمحدود وتصور سابق له. وهذا يستلزم أن نكون عالمين بالمحدود ومتصورين له قبل سماع الحد.

4-الوجه الرابع: “أن المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد التام، وهو الحقيقي، وهو المؤلف من الجنس والفصل من الذاتيات المشتركة والمميزة، دون العرضيات التي هي العرض العام والخاصة ،والمثال المشهور عندهم أن الذاتي المميز “الإنسان” الذي هو الفصل هو الناطق والخاصة هي الضاحك…”([4]). ثم ذكر الفروق التي ذكرها المناطقة بين الذاتي والعرضي، وبين أن تفريقهم هذا مبني على أصلين فاسدين…

قلت: خلاصته أن تفريقهم بين الذاتي والعرضي اللازم، مجرد تحكم واصطلاح لهم، ناتج عن عدم تفريقهم بين الوجودين الذهني والخارجي، والواقع أن الفروق التي ذكروها إنما هي فروق في الذهن، مرتسمة في النفس، وما كان في الذهن تدخله النسبية، إذ يمكن أن يُعارَض من ادعى أن ماهية الإنسان هي “الحيوان الناطق”، بآخر يدعي أن ماهيته التي ترتسم في نفسه أنه “الحيوان الضاحك”.

وزيادة في توضيح كلام شيخ الإسلام يمكن أن يقال :”النطق” و”الضحك” صفتان مميزتان للإنسان عند المناطقة، فالتفريق بينهما بجعل الأول وصفا ذاتيا، والثاني عَرَضِيًّا؛ اصطلاح وضعي، وتَحَكُّمٌ مَحْضٌ.

5-الوجه الخامس: “أن يقال هذا التعليم دوري قبلي فلا يصح؛ وذلك أنهم يقولون أن المحدود لا يُتَصَوَّر، ولا يُحَدًّ حَدًّا حقيقيا، إلا بذكر صفاته الذاتية …. [و] لا يعلم الذاتي من غير الذاتي حتى تعلم الماهية، ولا تعلم الماهية حتى تُعلم الصفات الذاتية التي منها تؤلف الماهية، وهذا دور؛ فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية، ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يعلم أنه لا يَتَصَوَّرُ الموصوف -الذي هو المحدود- حتى تُتَصَوَّر، فلا يعلم أنها ذاتية حتى يتصور الموصوف، ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية، ويميز بينها وبين غيرها….” ([5]).

حاصله: أن المناطقة يشترطون في الحد التام ذكر الصفات الذاتية لإدراك الماهية، ويعرفون الصفات الذاتية بما يتوقف عليه تصور الماهية، فلا تدرك الماهية عندهم إلا بذكر الصفات الذاتية، ولا تدرك الصفات الذاتية وتميز إلا بكونها يتوقف عليها إدراك الماهية، وهذا دور قبلي، وهو ممتنع.

خاتمة: خلاصة الاعتراضات الخمسة المذكورة في المقال على قولهم: “الحد يفيد العلم بالتصورات”:

1-أن الحد قولٌ مجرد عن الدليل، من قائل غير معصوم.

2-أن الحد خبر الحاد، وهو من باب خبر الواحد الذي لا يفيد العلم عندهم.

3-أنه لا سبيل للتحقق من صحة الحد من غير تصور سابق للمحدود.

4-أن تفريق المناطقة بين الذاتي والعرضي اللازم تحكم واصطلاح خاص بهم.

5-أن إدراك الماهية متوقف على الصفات الذاتية، والصفات الذاتية متوقفة على إدراك الماهية، وهذا دور قبلي ممتنع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1])” الرد على المنطقيين ” ص 74- مؤسسة الريان.

([2]) “الرد على المنطقيين” ص79 .

([3]) “الرد على المنطقيين” ص80 .

([4]) “الرد على المنطقيين” ص81 .

([5]) “الرد على المنطقيين” ص 119.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M