شهر رمضان.. جهاد في معركة الحياة
هوية بريس – صفية الودغيري
إننا نعيش مع رمضان في قلب المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، فليس الصيام إلا تحقيقا لمعاني الصبر أمام الجوع والعطش على مظاهر الحرمان في الحياة ومطامعها، وفتنها التي تتقاذفنا بكل أشكالها وألوانها، ما بين فتنة النفس مع أهوائها وملذاتها وشهواتها، وفتنة المال والذهب وجمعه وتكديسه، وفتنة الحب لغايات ساقطة، وأطماع تعصف بالقلوب فتضعفها، وفتنة الأهل والأبناء، وفتنة التنافس على المناصب والطموح إلى امتلاك السلطة، والفوز بأعلى صوت يسمع، وأقوى كلمة تنفذ، وفتنة امتلاك كرسي القيادة وبريق الشهرة والسمعة..
وليس الصيام إلا ردعا لكل هذه الفتن التي تعصف رياحها فتتجاذبنا يمنةً ويسرة، فنهيم وراء ملذاتنا ونخالها حلالا طيبا، وندمن حمل أوعية مدامها حتى نسكر من خمرها، فتذهب بلبِّنا ورشدنا، وتوقعنا في براثن الذنوب والمعاصي، نهيم بها في صحونا ومنامنا، وسرنا وجهرنا.
وليس الصيام إلا خارطة للحق والعدل والأنصاف، وبوصلة توجه خطانا لسلوك الطريق المستقيم، وترشدنا إلى المعالم الصحيحة التي تبلِّغنا أهدافنا، وتحقق غاياتنا النبيلة، وتحدد لنا الاتجاه الآمن الذي يقود مراكبنا في رحلة طويلة، نحمل خلالها حقائبنا وأمتعتنا المشحونة بأوراق تلهث أمام جوع الصيام وعطشه، وتنتظر من يخرجها من عتمة الجهل فتبصر نور الحق، ومن يمسح عن سطورها معاصيها.
وليس الصيام إلا مولد حياة جديدة، فنتعلَّم كيف نواجه الهزيمة، وكيف نحارب أعداءنا في ساحات انتصار الحق على الباطل، والعدل على الظلم والجور، وكيف نقاوم ونكافح ونناضل خوفنا وضعفنا ، وذلنا وخنوعنا، وانكسارنا وانهزامنا..
فمن تحمَّل شدَّة الصبر على الحرمان لساعات وأيام وشهر كامل، لقادرٌ على أن يتحمَّل قسوة الكفاح والنِّضال والمجاهدة لفصول من عمره وحياته.
ومن انتصر على جوعه وعطشه، وشهوته، وألجم نفسه بلجامها، وتحكَّم في أهوائها ورغباتها، وقادها قيادة حكيمة رشيدة، وأحاطها بحصون منيعة، تصونها من كل غزو يغزوها وينتهك خيراتها، وجنَّدها بجنود أبطال، جهَّزهم بجهازهم وعتادهم وأسلحتهم، وحمى حِماها من الوقوع في الشبهات والمحرمات، لقادرٌ على أن يؤمِّن لهذه النفس حياة كريمة شريفة، ويرتقي بها سلَّم المجد، ويتذوَّق الشهد ولذَّة النصر، ومتعة النجاح بعد كل امتحان، وفرحة الرّاحة بعد النَّصب والتعب، والنوم بعد الأرق و السهر، والشَّبع بعد الجوع، والارتواء بعد الظَّمأ..
ومن يحاربون في ميدانٍ صغير، وشهر واحد، وأيام معدودات، حقيق بهم أن يحرزوا النَّصر لأمتهم في ميدانٍ كبير هو ميدان الحياة، ومن قبل على نفسه الاستسلام والضَّعف والهزيمة بعد جهاد ساعات وأيّامِ صيامِه وقيامِه، فقد حَكَم على نفسه بالفرار والهروب من معركة الحياة، وحكم على نفسه بفقدان خُلُق المكافحين من الرجال والنساء..
إنَّنا نحتاج إلى فهم جديد لفلسفة الصيام، يجعلنا نتصوره حياة كاملة، نعيش أفراحها وأتراحها في شهر، يمتحن قدراتنا وكفاءاتنا، وجهادنا واجتهادنا، وقوتنا وصلابتنا، ويمتحن قوانا وطاقاتنا الذهنية والنفسية، والروحية والجسدية.
كما نحتاج إلى فهم لفلسفة الصيام يحقق السكينة والطمأنينة للنّفس، فتبدأ تفكِّر قبل أن تختار أو تقرِّر مصيرها، وفهم يحقق بعثًا يحيينا ويحيي ما ضاع منّا، ويحقق إصلاحا لما فسد من أوضاعنا، وتجديدا لما بلي من صفحات تاريخنا، وصحوة للضمير والعقل، ويقظة للفكر والقلم، ونهضة للعلوم والمعارف..
وهذا الفهم الواعي لفلسفة الصيام كفيل بأن يبلِّغنا هذه المقاصد في أيامٍ فاصلة في تاريخنا، تؤهلنا لتنظيم أوقاتنا وساعاتنا، وترتيب أولويّاتنا، ووضع أهدافنا وغاياتنا، وتعبئة قِوانا النَّفسية والرّوحية والخُلقيّة لتحقيق التّغيير الحقيقي، في أقوالنا وأفعالنا وسلوكنا، وإصلاح ما ساء من شؤوننا.