“شُرُودٌ” فِي زَمَنِ التَّضَامُنِ!

20 أغسطس 2024 20:04

هوية بريس – صالح أيت خزانة

يعد المغرب من الدول التي عُرفت، تاريخيا، بمساندة القضية الفلسطينية، دولة وحكومة وشعبا. فليس بِدعا أن يستمر هذا الدعم، اللامشروط، لهذه القضية المحورية للأمة الإسلامية منذ شارك المغاربة الناصر صلاح الدين معركة القدس المجيدة، إلى يوم الناس هذا.

فالقضية إرث عند المغاربة يتوارثونه أبا عن جد، ويعتبرون هذه القضية جزءا أصيلا من عقيدتهم، ونصرتها واجب شرعي يأتمون إن صرفوا عنه اهتمامهم، وقلبوا دونه ظهر المجن. لذلك لم يتخلَّ حاكم مغربي، عبر التاريخ، عن هذه القضية، وعن نصرتها، ولو من باب التظاهر بالاهتمام أمام شعب مسكون بالقضية، وبنصرتها.

لكن، مع هذا الاهتمام الذي ظل يبدو، ظاهرا، اهتماما عضويا بالقضية، وانشغالا سياسيا، وأيديولوجيا بها؛ لم تسلم القضية من المرور من ماكينة الاستغلال السياسي والأيديولوجي من طرف حكومات، وأحزاب، وتنظيمات، وهيئات مختلفة، وجدت فيها ضالتها لتصريف رسائلها المختلفة وسط الشعب، بعد أن عجزت عن إقناعه بقدرتها على التغيير، أو تقديم البديل عن السياسات المجتمعية القائمة، أو التعريف بالذات الحزبية، أو التنظيمية، أو المذهبية التي تشكلها داخل البلد. فكان اللجوء إلى التربيت على الذات المتألمة لما يجري في الساحة الفلسطينية، واستغلال هذا الشَّجَن، والألم، والعجز عن فعل شيء لفائدة ما يعتبره المغاربة قضيتهم الثانية، وسيلة مثلى لكسب هذا “التعريف” المغمور، ولفت الانتباه إلى المكون الحزبي، أو السياسي، أو الفكري، أو الأيديولوجي،… لأغراض مستقبلية؛ انتخابية، وسواها.

وحتى لا نتجنى على الكثير من التنظيمات إياها، ونقذفها بخلاف مقصودها من هذا التضامن الذي تعبر عنه من خلال المهرجانات الخطابية، والوقفات التنديدية، والمسيرات التضامنية، نطرح أسئلة مقلقة، نعتبرها مشروعة، قد يطرحها كل متتبع لهذه الأشكال التضامنية؛ منها:

-لماذا لا تتوحد هذه التنظيمات في هيئة تضامنية واحدة ووحيدة، تُفتح لجميع المغاربة، ولا يميز مكوناتها شارة، ولا شعار، ولا موقف، يعبر عنها، ويجعلها تنفرد عن سواها، خلا العَلَم والشعار الفلسطينييْن؟.

-لماذا تصر هذه الهيئات على الحضور بكل ثقلها الفكري، والأيديولوجي، والسياسي، في هذه التظاهرات، رغم أن القضية مشترك عربي وإسلامي، محدد المعالم، لا يحتاج إلى تصنيف، ولا يقبل منطق التدويل الاستغلالوي؟.

-لماذا تقام أكثر من تظاهرة مساندة في نفس المدينة، وفي نفس اليوم، وفي أحيان كثيرة، في نفس التوقيت، مع إمكانية جمع الناس على تظاهرة واحدة ووحيدة بزخم أكبر، وهو أدعى لإيصال الرسالة بنجاعة أكبر؛ إن لم يكن خلف الأكِمَّة ما خلفها؟!.

إن الظاهر، للأسف، أن ما يعرفه المغرب التضامني مع القضية قد جرت تحته الكثير من مياه الركوب غير البريء من طرف بعض الهيئات، حتى لا نقول كل الهيئات. فكل هيئة تحاول أن تظهر تضامنها الخاص والمسجل باسمها لفائدة القضية. فالإسلاميون يوجهون تضامنهم وفق القناعات التي تمثل مذهبيتهم التنظيمية والسياسية والأيديولوجية. وداخل هذا التيار، توجهات يصبغ كل توجه تضامنه بصبغة تميزه عن سواه، ويبصم تظاهراته ببصمات توافق قناعاته السياسية، والفكرية؛ خطابا، وشعاراتٍ، ومواقفَ. وكذلك مع باقي تيارات المشهد السياسي والفكري والثقافي المغربي. فقناعات العدالة والتنمية، مثلا، غير قناعات العدل والإحسان، غير قناعات اليسار، غير قناعات الليبراليين،… وإن كانت الدعوات لحضور هذه التظاهرات لا تشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى أصحاب المبادرة الحقيقيين، بل إلى عناوين عامة، يحيل معظمها على الوحدة (المبادرة المغربية، الجبهة الوطنية، الهيئة المحلية،… وما شاكل)، لكن العبرة بمضمون التظاهر والرسائل التي يحملها، ويسعى لتمريرها، وليس بشكله، وأسمائه. فقد حضرنا وقفات ومسيرات لم نتبين خلفية منظميها إلا بعد انطلاقها، وإصرار منظميها على تقديم إشارات لقناعاتهم الفكرية، والسياسية، ومواقفهم من التطبيع مع العدو؛ شدة وليونة، سواء من خلال الكلمات، أو الشعارات، أو بعض اللافتات المعبرة بوضوح عن الجهة المنظمة.

ومن أغرب ما سمعت، ما صدر عن أحد ممثلي حزب مغربي معروف بنضاله الجذري، ومواقفه المشرفة، في إحدى المسيرات الحاشدة، حينما دعا، في تدخله أمام الإعلام، في شرود عن سياق التظاهر، وإجماع المتظاهرين، إلى إطلاق سراح الرهائن الموجودين لدى المقاومة لأنهم، حسب زعمه، مجرد مواطنين إسرائيليين لا ذنب لهم فيما حدث؛ هكذا !!. وكأني به يحضر مظاهرة بتل ابيب وليس بالرباط!.

إن القضية واحدة، والهم واحد ومشترك، والتعاطف مع القضية تاريخ متوارث عند المغاربة المسلمين الأحرار. فلِمَ هذا التدابر في التضامن مع القضية؟!. فما الذي سيستفيده إخواننا الفلسطينيون من هذا الالتفاف حول قضيتهم من أجل مصلحة هذا الحزب، أو ذاك، أو هذا التنظيم أو سواه؟!. وما الذي سنستفيده، نحن المغاربة المتألمين مما يجري في غزة وسواها من أرض فلسطين، وأمام عجزنا عن تقديم شيء، من تظاهرات تصرف قناعات منظميها على حساب قضية إسلامية وعربية أكبر من الأحزاب، والتنظيمات، والهيئات المحلية، وحتى الإقليمية، والدولية؟.

شخصيا، لقد حضرت العديد من المسيرات، والوقفات التضامنية مع القضية طيلة أزيد من ثلاثين سنة، وما ألفيت مسيرات، ووقفات تشفي غليلي التضامني البرئ مع القضية، إلا فيما نذر، وقد كتبت عن ذلك في مناسبات كثيرة. حتى في المسيرات المليونية التي عرفها المغرب خلال تسعينيات القرن الماضي، شابها الكثير مما أَوْمَأنا إليه آنفا، من الاستغلال السياسوي، والأيديولوجي، من قبل هيئات حولتها إلى بوق لتصفية الحسابات السياسية، والأيديولوجية، مع الدولة والخصوم سواء. ونشر المواقف الحزبية والتنظيمية والترويج لها.

لقد تحولت تظاهراتنا من أجل القضية، إلى مجرد ظواهر صوتية لا تخيف أحدا، ولا تحرك في العدو الصهيوني شيئا. بل لا تعيرها سلطات البلد، وحكامه، أي اهتمام استراتيجي، للأسباب الآنفة الذكر. على خلاف بلدان أخرى يتم فيها التضييق على التظاهر لاعتبارات أمنية (أمن إسرائيل طبعا !!)، واستراتيجية. إذ تتحول هذه التظاهرات إلى هبات شعبية عفوية، تكسب زخمها المؤثر، من الانخراط العفوي والتلقائي لكل محبي القضية، ومناصريها من عامة الشعب وخاصته. فما أن تدعو هيئة للتظاهر من أجل النصرة حتى يهب الشعب عن بكرة أبيه للتظاهر التلقائي والعفوي. على خلاف الحال عندنا في المغرب، حيث تنحصر التظاهرات في مناضلي ومريدي التنظيمات والهيئات الحزبية والجمعوية الداعية لها ، وبعضا ممن يشارك، فضولا(!)، من عامة الشعب المغربي، في حين تمر الأغلبية بمحاذاة الوقفة ولا تعير لها أي اهتمام، وكأنها لا تعنيها !.

وهذا لا يعني أن المغاربة أقل اهتماما وانشغالا بما يجري في فلسطين من غيرهم ببقية بلدان العالم العربي والإسلامي، أبدا !!. القضية وما فيها، كما يقال، أن غضب المغاربة مما قدمته هذه الهيئات في أكثر من مناسبة سمحت لها بالتدبير أو التعبير عن الموقف،  نفَّرهم من الاستجابة لدعواتها، وجعلهم يتبرمون من المشاركة في هذه التظاهرات، ليس رفضا لنصرة إخوانهم الفلسطينيين، أو عدم اكتراثهم بالقضية، ولكن تسجيلا لاستيائهم من هذه الهيئات التي لازالت تمثلهم، وتتحدث باسمهم، رغما عن أنوفهم. وهذا الفارق الرئيس بين تظاهرات عفوية، أوقدتها حرقة النصرة لأهل غزة، وتظاهرات مؤسسة، تنظمها هيئات، وتنظيمات، أغلبها يؤسس لمستقبله السياسي، والأيديولوجي وسط الجماهير الشعبية، على حساب قضية إنسانية، عالمية، أكبر من اهتماماتنا التافهة.

لكن، في المقابل، وحتى لا نُتهم بالعدمية، وسوء التقدير، وحتى لا نغمط الجهود المعتبرة التي تبدلها هذه الهيئات في النصرة والتعريف بالقضية، والتي تلقى تقديرا معتبرا من إخواننا الفلسطينيين (آخر ما بلغنا منهم ما ذُكر في حفل عزاء الشهيد إسماعيل هنية:” أنتم يا مغاربة ما قصرتم” !)، وأمام غياب البديل “البريء”؛  ستبقى هذه التظاهرات، رغم شرودها وعلاتها، أفضل ما يقدمه المغاربة نصرة للقضية، وترويجا لها، واستجابة للضمير الوطني المحترق من جرائم الصهاينة في حق إخواننا الفلسطينيين، مقارنة بمجموعة من البلدان التي لا تكاد تسمع فيها حسا، أو تحس منها ركزا. كما ستبقى مساهمات هذه الهيئات، في هذا التعريف، وفي هذه النصرة، جزءا من الواجب الأخلاقي الذي يطوق عنقها أمام الرأي العام الوطني الذي يعتبرها المخولة، رسميا، لقيادة أي مبادرة من أجل النصرة والاستنصار. إذ ليس وراء ذلك، ودونه، سوى الفراغ الذي تأباه الطبيعة كما يقال. فهذه الهيئات، خصوصا السياسية منها، تمثلنا في شأننا العام، وقد أسلسنا لها قيادتنا، بشكل من الأشكال، فلا غرو أن تعبر عن انتظاراتنا من القضية كما تعبر عنها في قضايانا المجتمعية ؛ سواء بسواء !

لأجل هذا، نحن نشارك في هذه التظاهرات، وندعو للمشاركة فيها، ونعتبر هذه المشاركة   أقل ما يمكن أن نقدمه للقضية في ظل هذا الصمت الذي عَمَّ وطَمَّ، رُغم ما يعتريها من شرود قد يسيء لرسالتها الحضارية والإنسانية.

دمتم على وطن..!!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M