صعود اليمين المتطرف الفرنسي: حسابات الربح والخسارة
هوية بريس – بلال التليدي
أضحت الانتخابات التشريعية الفرنسية تمثل تحديا متعدد الأبعاد، إذ لم يعد صعود اليمين المتطرف الفرنسي كابوسا يشغل الفرنسيين لوحدهم، بل أضحى يمثل تحديا للأوروبيين من جهة، وللدول التي تحتفظ فرنسا معها بعلاقات استراتيجية لاسيما منها دول المغرب العربي، والمغرب والجزائر على الخصوص.
تتفاوت درجة التحدي بالنسبة إلى العلاقات المغاربية، فالجزائر تشعر بالتخوف أكثر من صعود حزب مارين لوبين، لأن التجمع الوطني الذي يتزعمه جوردان بارديلا يحتفظ برؤية متشددة بخصوص ملف الذاكرة، ويمكن في أقل السيناريوهات سوءا أن يمانع سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون في المضي قدما في سياسة المصالحة وطي هذا الملف، في حين يتساوى التحدي بالنسبة للمغرب والجزائر على مستوى تداعيات سياسة الأمن والهجرة التي يعتزم اليمين المتطرف تطبيقها، لاسيما ما يرتبط بطرح مشروع قانون لطرد الجانحين والإسلاميين والمجرمين الأجانب، وكذا تخطيطه لإلغاء حق الأرض، بما يضع عراقيل أمام الأطفال المولودين في فرنسا من والدين أجنبيين من الحق في الحصول على الجنسية الفرنسية إذا طالبوا بها قبل 18.
قبل عقد من الزمن أو أكثر، كانت مشكلات الأمن والهجرة تخلق كابوسا مخيفا بالنسبة للدول المغاربية، وتخشى من أن تكون مضطرة بسبب صعود اليمين المتطرف إلى مواجهة موجة عودة لمواطنيها المقيمين في فرنسا، بالنحو الذي لا تتحمله، لكن في السنوات الأخيرة، تغيرت المعادلة بشكل كبير، وأضحت قضايا الهجرة والأمن، ورقة مشتركة، يمكن أن يستعملها الطرفان (الفرنسي والمغاربي) على حد سواء، وأضحى من الصعب على أي دولة أن تمضي بشكل أحادي في فرض سياستها دون أن تضع في الحسبان ردود فعل قد تؤثر على الأمن الأوروبي من جهة، وعلى الاستثمارات الخارجية الفرنسية في هذه البلدان من جهة أخرى، بل وقد تؤدي أحيانا إلى تبلور محاور إقليمية لا تخدم رغبة فرنسا في استرجاع نفوذها في غرب إفريقيا ودول الساحل جنوب الصحراء، كما يمكن لكل من المغرب والجزائر في سياق الممانعة أن يستعملا أوراقا قوية تتعلق بالطاقة أو بعض المعادن الحيوية التي تتوقف عليها الصناعات الحديثة.
نظريا، لم تعد قضايا الأمن والهجرة تشكل مخاوف جدية بالنسبة للمغرب والجزائر، لكن في المقابل، يطرح صعود اليمين المتطرف الفرنسي مشكلتين مركزيتين، تثيران المزاجين المغربي والجزائري، الأولى مشكلة الصحراء بالنسبة للمغرب، والثانية مشكلة الذاكرة بالنسبة للجزائر، وثمة مشكلة مركبة منهما تطرح على الجزائر خاصة، ذلك أن موقف اليمين المتطرف الفرنسي من الصحراء، يحدد إلى حد كبير طبيعة العلاقة بين فرنسا والجزائر.
من وجهة نظر السياسة، وباستحضار الأطر الدستورية، ينبغي التمييز بين مديين، الأول مرحلي، يتعلق بسيناريو فوز اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية، وفي هذه الحالة، سيضطر للتعايش مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بما يعنيه ذلك دستوريا من احتفاظ الرئيس بالمجال المحفوظ، أي مجال الدفاع والخارجية، أي استمرار نفس السياسة المغاربية السابقة، التي تسير في اتجاه متدرج نحو التخفيف من تداعيات ملف الذاكرة بالنسبة للجزائر، وتسير بخطوات متقدمة نحو الاعتراف بمغربية الصحراء، بعد قرار السلطات الفرنسية توجيه استثماراتها الخارجية إلى منطقة الصحراء، وتصريحات مسؤوليها في رئاسة الوزراء أو الخارجية أن باريس تخطو خطوات متدرجة في هذا الاتجاه.
في واقع الأمر، وعلى المدى المتوسط والبعيد، يصعب أن يتعايش هذان الاتجاهان في مفردات السياسة الخارجية الفرنسية، فالتوجه إلى أبعد مدى في اتجاه الاعتراف بمغربية الصحراء، سيفضي لا محالة إلى توتير العلاقة مع الجزائر، لكن، ما يجعل توتر الاتجاهين متحكما فيه إلى حدود اللحظة، أن التدرج الذي تسلكه باريس في سياستها تجاه الصحراء يطمئن الجزائر نسبيا، وإن كانت الاستثمارات الفرنسية في الصحراء تزعجها، والثاني، أن الجزائر تعيش لحظة انتخابية، وأولوياتها في اللحظة، هو ترتيب التوازنات في هرم السلطة، لا خلق توترات تؤثر على هذه العملية ذاتها.
على المدى الثاني، أي الاستراتيجي، الرسالة الرمزية التي بعثتها الانتخابات الأوروبية هي أن صعود اليمين المتطرف هو اتجاه مضطرد، وأن الخطوة الثانية، ستكون هي الفوز بالانتخابات التشريعية، وأن ما بعدها، لن يكون إلا الوصول إلى السلطة في عدد من الدول الأوروبية ومنها فرنسا.
الفرنسيون يحاولون بكل جهدهم منع هذا السيناريو، من خلال سياسة التحذير الجماعي (المظاهرات التي عمت شوارع المدن الفرنسية) أو عبر سياسة المناورة السياسية (قرار ماكرون حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها) لتوريط اليمين المتطرف في السلطة لاختبار سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وجعل مرحلة «إخفاقه» ورقة لإسقاطه في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها سنة 2027.
هذه الديناميات الداخلية، لا تدخل ضمن المعطيات التي يستحضرها صناع القرار السياسي المغاربي، فهي مجرد خيارات لمنع المحظور بالنسبة إلى الفرنسيين، أما بالنسبة لدول المغرب العربي، فصعود اليمين المتطرف إلى السلطة ليس فقط سيناريو محتملا، بل هو السيناريو المرجح، ولذلك، فالتحدي الذي يطرح في حالة فوزه في الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، هو خلق خيارات إدارة الصراع والتوتر، بما يجعل سياسة اليمين المتطرف تسير في الاتجاه غير المعاكس للمصالح الاستراتيجية لكل من المغرب والجزائر.
المغرب ربما يعيش وضعا أقل تحديا، فاليمين المتطرف، لم يصرح بأي تصريح يعلن فيه موقفا عدائيا من قضية الصحراء، بل على العكس من ذلك، مارس غير قليل من النقد لسياسة ماكرون السابقة، التي كانت تعاكس المغرب، وانتقد بشدة ميله إلى الجزائر، ووصف زعيمه جوردان بارديلا الشعب المغربي الشعب الصديق والشقيق، وأشاد أكثر من مرة بالمغرب وقيادته.
أما بالنسبة للجزائر، فيبدو التحدي مضاعفا، فمن جهة، لا يبشر صعود اليمين المتطرف بحصول أي تقدم في ملف الذاكرة، وهو الشرط الأساسي الذي تضعه الجزائر لإحراز أي تقدم في العلاقة مع باريس. ومن جهة مقابلة، فإن رهان الجزائر على موقف فرنسي معاند للمغرب بخصوص الصحراء، يجعلها تميل أكثر إلى صعود الجبهة الشعبية (تحالف اليسار) وأنها لا ترى في صعود اليمن المتطرف إلا استمرارا في هزائمها الدبلوماسية مع المغرب في هذا الملف.
في المحصلة، وبحكم أن المرحلة التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية تمتد لثلاث سنوات، ستكون الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية الفرنسية هي المحدد الأساسي لسياسة باريس تجاه الدول المغاربية، وهو ما يعني أن التخوفات الجزائرية ستكون الأوفر في حالة صعود اليمين المتطرف، لأن باريس بدأت مسارا متدرجا لتطوير العلاقات الاستراتيجية مع المغرب، وهي تسعى إلى الوصول إلى المدى الأبعد (الاعتراف بمغربية الصحراء) بعد أن وصل قطار العلاقات المغربية الفرنسية إلى محطة الاستثمار الفرنسي في الصحراء، في حين، تعثر المسار الفرنسي الجزائري، ولم يستطع إلى اليوم تجنب التوتر الذي يلحقه كل لحظة بسبب ملف الذاكرة والعلاقات الفرنسية المغربية، ومن المحتمل جدا، أن يكون صعود اليمين المتطرف، ورقة تفاوضية مهمة بيد الرئيس إيمانويل ماكرون يستخدمها مع الجزائر لتبرير مزيد من التلكؤ في ملف الذاكرة، والتذرع بأنه يدفع ثمن التعايش مع التجمع الوطني (اليمين المتطرف) وأن على الجزائر أن تساعده في إدارة الموقف إلى أن تتخلص فرنسا من وجعه.