طفلُ الزلْزَال
هوية بريس –علي كرزازي
أمّي الحبيبة
لا أذكر من أمسي سوى صورتك وأنت توقدين النار كي تطهي لنا طعامنا. لم تغادر البسمة شفتيك ولا زايلتك روحك المرحة. كنتِ أحرص ما تكونين على أن أراجع وإخوتي دروسنا. وقبل أن نأوي الى فراشنا طبعت على خدودنا قبلتك الحبيبة، وكان ذلك آخر عهد لنا بك.
ما كنت أدري أنه آخر عشاء سيجمعنا. اتفقت مع أبي في غفلة منا على الرحيل سويا. تركتمونا لوحدتنا ، لغربتنا. تغشى الأحزان قلوبنا ويسكن الوجع أرواحنا. حتى كلبك العزيز يا أمّي أبى إلا أن يمعن في سمت الوفاء، فلم يتخلف عن ركب الراحلين.
الكرمة التي كنت تتفيئين تحت ظلالها، اجتُثت جذورها في رمشة عين. أمّا دجاجتك البيضاء فقضت كما قضيت مخلفة بيضها الذي لم يقو الزلزال بكل عنفه وجبروته على فقصه.
الديك صاحب الصوت الرنان صاح صيحته الأخيرة في الليلة التي سبقت الزلزال موذنا بانتهاء فجر صلاتك.
البيت الذي احتضن طيفك الحبيب صار مجرد أكوام من التراب المهيل الذي طمر جسدك الطاهر.
صويحباتك اللائي كن يسامرنك ذات صفاء ، آثرن أن يسافرن سفرك البعيد.
قريتك الوادعة أمّي أصبحت أطلالا خربة…
بكيت وبكى إخوتي فلم يسعفنا البكاء ولا التشكي. جفت دموعنا وتقلصت قلوبنا داخل أقفاصنا الصدرية الصغيرة.
أدرك أمّي أن لا صدر حنونا بعد اليوم سيحتوينا، ولا أيد حانية ستربت على رؤوسنا. سندخل حربنا عزّلا من سلاحنا. لا أحد سيداوي جراحنا المفتوحة ولا أحد سيسمع أنيننا. من سيرعى برموش عينيه طفولتنا البريئة؟ ومن سيملأ كاسات شاينا لتعيننا على تحمل لسعات برد الشتاء؟ من سيهيئ لنا طعامنا؟ ويحيك لنا ملابسنا إذا ما تمزّقت؟ ومن سيسهر بمحاذاة أسرّتنا إذا ما مرضنا؟ ومن سيهدينا بسمة تشع بألف نور، تنفث في أوردتنا وهج الحياة ودفقها؟ من سيرسم لأحلامنا خارطة الطريق؟ من سيذرف الدمع لأفراحنا وأتراحنا؟
من…ومن ….ومن يا أمّي ! يا أيتها السادرة في لحن الغياب، الأرض بعدك صارت مجرد يباب، لعلها لم تتحمّل فقدك. هي فعلا لم تتحمل فكيف لطفل صغير مثلي أن يتحمّل رزء رحيلك؟
لا تغتمي أمّي ! سأبتني بيتا جديدا، وسأخصك وأبي بغرفة جميلة، سأزينها جدرانها بصوركما البهية وأشيائكما الحبيبة. عفوا لأقل ما تبقى من أشيائكما الحبيبة.
سأغرس كرمة صغيرة في نفس مكان كرمتك، وسأقتني كلبا وديكا ودجاجات.
فلتطمئن روحك الطاهرة أمّي ! سأظل أذكرك ما حنّ قلب طفل لأمه، وسأحيا على ما زرعته من قيم في روحي وما غرسته من نبل في حنايا قلبي وثنايا حوبائي.
سقت قبرك غوادي الرحمة ومزن المغفرة.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ).
ابنك الحبيب: طفل الزلزال