عشوراء بين الإجلال والإخلال
هوية بريس – خالد ازكاغ
استهل علينا شهر الله المحرم وهو يعدُ من الأشهر الحُرُم الأربعة ( رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم)، لهذه الأشهر مكانة ومنزلة عظيمة عند الله تعالى ، كانت العرب تقدس هذه الأشهر قبل البعثة النبوية (انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، جواد علي) جعلت لها مَزيَة وحُرمة على باقي شهور السنة ، تحرص العرب أن لا تظلم أحداً في هذه الأشهر وتتوقف الحروب بين القبائل المتناحرة ويُؤمَنُ المسافر والظاعن وتقام الأسواق ( عكاظ، مجنة، ذي المجاز ) ويزور الناس بيت الله الحرام حُجاجاً ومعتمرين
ورد في كتب التاريخ والسيرة أن حرباً نشبت ووقعت بين بعض القبائل القرشية في أحد الشهور الحُرُم ، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه وسمَوا تلك الحرب بحرب ” الفجار” كِناية على أنهم فجروا عندما سولت لهم أنفسهم انتهاك حُرمة الشهر الذي قدسه آباؤهم وأجدادهم .
عندما بعث الله تعالى نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رحمةً وهدىً للعالمين بقيت لهذه الشهور الأربع مكانتها وقُدُسيتها قال الله تعالى :” إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدين القيم . فلا تظموا فيهن أنفسكم ..” سورة التوبة الآية 36
من هذه الأشهر الُحُرُم نجد شهر ” مُحرَم” وأفضل وأَجَلُ يوم فيه هو اليوم العاشر، وقد أبان الإسلام عن فضل هذا اليوم لمجموعة من الأسباب والأحداث التي تزامن وقوعها في هذا اليوم الأغر وجعلته متميزا عن غيره من أيام السنة
أولا: أصل التسمية
سُميت عشوراء بعشوراء لأنها جاءت في اليوم العاشر من مُحرَم ، ويُسمي المغاربة هذه الأيام ب” العواشر “لأنها مقدسة ومعظمة عندهم.
ثانيا: الأحداث التي وقعت في هذا اليوم (عشوراء)
لقد شاع واستفاض واستشرى بين العوام والدهماء والقُصاص والحكوات-جمع حاكي- أن هذا اليوم وقعت فيه مجموعة من الأحداث الدينية والتاريخية والسياسية جعلته متميزاً على باقي أيام السنة ، ومما شاع وداع أنه حدث في هذا اليوم ما يلي :
-هو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم
-هو اليوم الذي نجى الله فيه نوحاً وأنزله من سفينته هو ومن أمن به من قومه
-فيه أنقذ الله تعالى إبراهيم عليه السلام من النمرود، عندما قذفه في النار حيَاً فقال الله تعالى مخاطبا النار المشتعلة:” قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ” سورة الأنبياء الآية 70
– فيه ردَ الله تعالى يوسف الصديق إلى أبيه يعقوب بعدما غاب عنه لمدةٍ طويلة في أرض كِنانة.
-هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون وجُنوده.
-فيه أخرج الله يونس عليه السلام من بطن الحوت ونجاه من الكرب العظيم
-فيه رفع الله البلاء والسقم عن جسد أيوب عليه السلام
– فيه قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ساحة كربلاء صابراً محتسباً
إذن كما رأيتم فقد ورد أن كل هذه الأحداث وقعت في هذا اليوم ” لا كننا نقول ونؤكد أنه لم يصح شيء من هذا ما عدا قصة موسى مع فرعون ومقتل الحسين رضي الله عنه، أما باقي الوقائع الأخرى فمجرد كلام تلوكُه الألسن بلا زمام ولا خطوم ، فالصناعة الحديثية تنفي ذلك وتكذبه ، تظل هذه الأمورمجرد حكايات يتداولها العوام فيما بينهم ويسترزق بها القُصاص والحكوات في الأسواق والساحات
ثانيا: فضل عشوراء في الإسلام
لم يرد في فضل عاشوراء شيء صحيح تطمئن إليه القلوب والأفئدة غير استحباب صوم هذا اليوم واليوم الذي قبله ( تاسوعاء ) لأنه كما قلنا اليوم الذي نجى الله فيه رسوله موسى عليه السلام من بطش فرعون وجنوده
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ” قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عشوراء ، فقال: وما هذا ؟ قالوا: يوم صالح ، هذا اليوم نجى فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه” رواه البخاري ، كتاب الصيام، باب صوم عشوراء
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:” صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ” رواه مسلم ، كتاب الصيام
تُطلعنا الأحاديث النبوية الشريفة السالفة عن فضل صيام عشوراء وعن السبب في ذلك ، وهي أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما
قُلت لم يصح شيء آخر غير الصيام في هذا اليوم فكُن على بال ولا تغتر بما تراه وتسمعه، فاللبيب بالإشارة يفهم
ثالثا: عشوراء عند الشيعة
من الخطوب التي حدثت في عشوراء هو حدث مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أرض كربلاء هو ومجموعة من آل بيت ( أبناء الحسن وأبناء جعفر وأبناء عُقيل ) رضوان الله عليهم جميعاً، وقصة ذلك كما يلي:
بعد موت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، تولى الخلافة من بعده ابنه يزيد بن معاوية لكن الحسين رضي الله عنه لم يعجبه ذلك لعدة أسباب : أنه أولى بالخلافة من يزيد لأنه سيد شباب أهل الجنة كما بشره بذلك جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ابن علي بن أبي طالب أول من أسلم من الصبيان وأمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى استقامته وزهده وورعه أما يزيد بن معاوية معروف بلهوه ومجونه وعبثه فهو لا يصلح أن يكون خليفة على المسلمين فيهم عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس و الحسين بن علي
عن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال:” والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ” تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي ، ص164، دار الأرقم بن أبي الأرقم
لكل هذه الأسباب خرج الحسين من مكة مع آل بيته متوجهاً إلى الكوفة للقاء شيعته بها، بيد أن خبره وصل إلى زيد بن معاوية بالشام ، فأرسل إلى عامله عبيد الله بن زياد أن يتحقق من خبر خروج الحسين وأن يكفيه شره، فجهز عبيد الله بن زياد جيشاً عرمرم بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص وأرسله في طلب الحسين بن علي ، فلتقى الجيش مع الحسين في ساحة كربلاء قرب الكوفة ، فتمت محاصرة الحسين وأهله في كربلاء ومُنع عنهم الماء ، فما فتئت الحرب حتى نشبت و حمي وطيسها فقتل الحسين بن علي وأغلب أهله، لم ينجوا منهم سوى النساء والرضع وبعض الصبيان ، فتم جزُ رأس الحسين ووضع في طست وأرسل إلى عبيد الله بن زياد الذي أرسله بدوره إلى الخليفة بالشام مع سبي آل البيت من العثرة الشريفة .
وصف الفخري موقعة كربلاء فقال:” هذه قضية لا أحب بسط القول فيها استعظاماً لها و استفظاعاً، فإنها قضية لم يجر في الإسلام أعظم فحشاً منها ، لعمري إن قتل أمير المؤمنين عليه السلام هو الطامة الكبرى ولكن هذه القضية جرى فيها من القتل الشنيع والسبي أو التمثيل ما تقشعر له الجلود واكتفيت أيضاً عن بسط القول فيها بشهرتها فإنها أشهر الطامات ، فلعن الله كل من باشرها وأمر بها ورضي بشيء منها ولا تقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وجعله من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً” تاريخ الإسلام، حسن إبراهيم حسن، ج1ص226، مكتبة النهضة المصرية
بعد هذا السرد التاريخي لمقتل الحسين رضي الله عنه ، نرجع إلى موقف الشيعة من هذا الحدث الأليم :
بعد موقعة كربلاء اجتمع سُراة الشيعة وتلاوموا وندموا على تفريطهم وخذلانهم للحسين وأنهم تقاعسوا فلم يدافعوا عنه فتابوا إلى الله من هذا الجرم وسمو أنفسهم “التوابون”.
من ذلك اليوم القاتم اتخذ الشيعة يوم عشوراء يوم حزن وكرب وبلاء، حيث يلبسون السواد حِداداً ويعلنون الحزن والأسى ، فيلطمون خدودهم وصدورهم ويجلدون أنفسهم بالسلاسل ويشجون رؤوسهم بالحديد والسيوف حتى تسيل الدماء وتخضب تراب كربلاء حزناً على مقتل الحسين وتسمى هذه العادة عند الشيعة ب “التطبير” وما زالوا إلى يوم الناس هذا يجتمعون في ساحة كربلاء في عشوراء وينشدون الأشعار في رثاء الحسين ويطبرون أنفسهم
رابعاً: عشوراء عند النواصب
النواصب هم فرقة ظهرت في التاريخ الإسلامي ميزتهم الأساس أنهم يُكِنُون الحقد والبعض والعداء لعلي بن أبي طالب وآل بيت، هذه الفرقة على النقيض تماما لما عليه الشيعة الذين يقدمون آل البيت والعثرة الشريفة وينسبون لهم ما كان ولم يكن، ويا أسفاه ضاع الدين بين الإفراط والتفريط و الكيس من فهم تم لتزم المهيع الوسط معتصماً في ذلك بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
يوم عشوراء هو يوم عيد عند النواصب تجدهم يعلنون الفرح والسرور لمقتل الحسين ، فيلبسون الجديد ويأكلون الطعام الشهي، فيخرجون إلى الشوارع يضربون الدفوف والمزامير نِكاية في العثرة الشريفة وما حل بهم من قتل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
خامسا: عشوراء في الثقافية الشعبية المغربية ( المغرب الأقصى)
يختلف الحال كثيراً في بلاد المغرب وطريقة المغاربة في الاحتفال بيوم عشوراء ، فالمغرب في هذه المناسبة له خصوصيات تميزه عن باقي بلدان العالم الإسلامي الأخرى، ونذكر من هذه الخصائص ما يلي :
أولا: أن التجار والحرفيين والفلاحيين في هذا اليوم يُخرِجُون زكاة أموالهم وتجارتهم، كما يقومون برش أثاثهم ومنازلهم وأراضيهم وأموالهم بالماء تيمُناً وطلباً لحلول البركة والزيادة فيه، لكن المتتبع الحصيف لهذه العادة وجذورها التاريخية يجد أن أصلها ومنشأها مأخوذ من اليهود المغاربة هم الذين كانوا يفعلون ذلك لأنهم يعتبرون الماء في عاشوراء مبارك لأنه هو الذي أغرق فرعون ونجى موسى من بطشه وجبروته .
أما الأطفال فيخرجون زُمراً وزرافات يطلبون الصدقة بقولهم ” حق بابا عشور”
ثانياً: من العادات المتأصلة في المغرب ما يعرف ب ” زمزم ” لأن الناس في هذا اليوم يرش بعضهم بعضاً بالماء، حتى أن الأم توقظ أبناءها وأسرتها برشهم بالماء في وجوههم، وعند رجوعنا إلى أصل هذه العادة ومصدرها نجد عدة تفاسير أهمها:
-مأخوذة من اليهود لأنهم كما سلف يعتبرون الماء مبارك في هذا اليوم لأنه السبب في نجاة موسى
-أن الحسين رضي الله عنه عندما قتل في كربلاء، قتل عطشاناً لأن جنود عمر بن سعد منعت عليه الماء، فرش الماء في هذا اليوم يرجع إلى هذه الحادثة المؤلمة
ثالثاً: هناك عادة أخرى يحافظ عليها المغاربة في هذا اليوم وهي ما يعرف ب ” الشعالة “، منذ دخول شهر مُحرم وأبناء الأحياء والحارات يجمعون الحطب وأغصان الأشجار بُغية اشعالها يوم عشوراء، فيضرمون النار ويلتفون حولها يغنون ويرقصون، ويقفزون فوق النار الملتهبة، بل نجد أن كل حي يفتخر أنه صاحب أكبر ” شعالة” وعند رجوعنا وبحثنا عن أصل هذه العادة يمكن ارجاعها إما إلى النار التي قَذفَ فيها النمرود سيدنا إبراهيم فلم تحرقه لذلك يحتفلون بإشعال النار والقفز فوقها، وهناك من يرجع ذلك إلى معركة كربلاء لأنه عندما قتل الحسين قام الجنود بإحراق فُسطاطه (الخيمة) وفسطاط آل بيته
رابعاً: انتشار الشعوذة والسحر والطلاسم في هذا اليوم بشكل كبير ومُلفت للنظر ،في يوم عشوراء تمارس النساء الشعوذة من أجل الزواج بالنسبة لغير المتزوجة أو اخضاع الزوج أو الانتقام من الأعداء والخصوم ، كما أن رائحة البخور تزكم أنفك وهي تنبعث من الدور والمنازل والدروب لأنها كما يقولون تطرد في هذا اليوم الجن والشياطين والعفاريت
خامساً:في يوم عاشوراء تقوموا بعض النساء بقص طرف من شعورهن ورميها في “الشعالة” من أجل أن يبارك الله فيه ويُطيله ويُحسنه كما يعتقدن
سادساً: في هذا اليوم يحتفل المغاربة بإعداد أشهي الأطباق من الطعام ، فيوزعون “الفاكية” وهي عبارة عن مزيج من (اللوز، الجوز، الزبيب، التمر…) على الأطفال والأحباب والزوار والجيران، وتقوموا النساء بإعداد الكسكس بالقديد(لحم مجفف)أوالذيالة (ذنب الخروف يخزن لهذا اليوم)أو الكرداس (أمعاء وبطن الخروف مجففة بالملح والتوابل) ، بيد أن هناك من يفضل التريد بالدجاج وحبوب الحلبة
أما الأطفال فيلعبون بالمفرقعات و الألعاب ، أما البنات فيجتمعن ويضربن على الطعاريجوالبنادير صائحات ” عشوري عشوري غدا نطلق شعوري هذا بابا عشور بغا إصلي وداه الواد ”
وفي الختام، يمكن القول أن هذا اليوم يشكل فسيفساء من العادات والأعراف والتقاليد و الأحداث الدينية والتاريخية مما جعله فِعلاً يوما ذو خصوصية كبيرة.
والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم