“علماء المغرب”.. بين إنصاف المختصين وإجحاف الوزير “التوفيق”

15 ديسمبر 2024 12:49

هوية بريس – حكيم بلعربي

جدل كبير ذاك الذي أثارته كلمة الوزير المؤرخ أحمد توفيق والتي فرضها فرضا على ندوة المجلس العلمي الأعلى بالرباط هذا الشهر، والتي جاءت بعنوان: “شرط اعتبار الأحوال عند دعوة العلماء للإصلاح”.

أقول فرضها لأنني ألتقط ما جاء في مقدمة الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى حين قال عن الوزير: “ونحن نشكره باسمكم جميعا على تحمله وحرصه على المشاركة في افتتاح هذه الندوة العلمية المباركة …”

لتأتي مقدمة الوزير متظاهرا بأنه طُلب منه الكلام ولم يفرض كلمته فرضا فيقول: “استجابة للأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى بقصد مشاركتي في هذه الندوة…”

وكان على السيد الوزير حفظا لماء وجهه بعدما سمع تعبير الكاتب العام أن يعدل استهلاله بما لا يناقض مضمون المقدمة التي يظهر أنها تدل على الحقيقة؛ إذ ما كان للسيد الكاتب العام أن يواجه الوزير القيم على القطاع بخلاف الواقع والحقيقة.

الوزير الذي صال وجال في التاريخ العُلَمائي المغربي مُقَزِّما لدور العلماء الكبار الذين هم مُثل الأمة المغربية ومحرفا له، ومصورا لهم بأنهم يتصرفون بخلاف ما تقتضيه الأحوال، ما يعني أنه يسمهم بعدم فقه الواقع ولا مراعاة مآلات تصرفاتهم، ولا مؤديات مواقفهم، وفي هذا تسفيه لثلة عظيمة من رجالات المغرب الذين ذاع صيتهم شرقا وغربا وهم الأئمة: القاضي عياض وأبو بكر المعافري، وأحمد بابا التنموكتي وأبو علي الحسن اليوسي وعبد السلام حمدون جسوس ومحمد عبد الكبير الكتاني.

لقد رفع الدكتور أحمد التوفيق مسطرة التقييم والتقويم ضد أساطين العلم الشرعي في المغربي قافزا على سياج التخصص ومنتهكا لضوابط النقد العلمي الرصين… وحتى لا يبقى كلامنا مجرد دعوى نمثل بشخصية من الشخصيات العلمية التي نالها النقر الوزاري وهي شخصية أبي علي الحسن اليوسي رحمه الله الذي أساء له السيد الوزير إساءة كبيرة.

أبو الحسن اليوسي يصفه العالم والسياسي والمستشار الملكي عباس الجراري بأنه “طرح كل الإشكاليات التي تولدت في هذا الوضع -يقصد عصره وبيئته- بما في ذلك نظام الحكم الذي حاول توجيهه وتنبيهه ولفت نظره إلى ما يقومه ويصححه ويحقق له المشروعية والشعبية” [عبقرية اليوسي، ص:71].

ونقل الجيراري وصف الكردودي له بأنه: “كان قوالا للحق يخاطب به السلطان ولا يبالي”.

ونقل الجيراري كذلك عن القادري في التقاط الدرر واصفيا اليوسي بقوله: “كان ماهرا في المعقول والمنقول بحرا زاخرا لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد بالغ في الذب عن الشريعة والحرص على تقرير أصولها الرفيعة، فقد كان سيفا من سيوف الدين وقاطعا لحجج المبطلين، لا يخاطب السلطان إلا بصريح الحق مشافهة ومكاتبة”.

ونقل بعد ذلك الجيراري وصف الزياني لليوسي بعدما ذكره في قضاة العدل كعبد السلام جسوس والحسن بن رحال وسعيد العميري فقال: “سابَقَ حلبتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإقدام على السلطان، يقول الحق والنكير على الوُلاة فيما يرتكبونه من الجَور على الرعايا… فإنه كان كثيرا ما يخاطب السلطان في النوازل والحوادث تارة بوجه الشفاعة وتارة بالوعظ ومرة بالنكير، ولاقى منه مكَارِه تارة بالعتب وتارة بالرد وتارة بالهجران، وكان لا يرده ذلك عن مخاطبته”[عبقرية اليوسي 71-72].

بل قال فيه أبو سالم العياشي صاحب الرحلة المشهورة:

من فاته الحسن البصري يدركه …  فليأت للحسن اليوسي يكفيه [طبقات الحضيكي والنبوغ المغربي].

وقال فيه محمد الطيب القادري في نشر المثاني عنه: “خص أهل عصره بالصدع بالحق بين يدي خليفة الوقت اعتناء به ومبالغة في نصحه ومحبته راجيا منه أن يكون على سيرة الخلفاء”[ضمن موسوعة أعلام المغرب لمحمد حجي:5/1801].

ويُترجم لليوسي الأستاذ المصلح علال الفاسي في أعلام من المشرق والمغرب منتشيا بصفاته مثنيا على زهده وورعه وقوته في الحق وتجرده من الأطماع في معاملة السلطان المولى إسماعيل.

واليوسي ليس موضع عناية واحتفاء من المغاربة فقط بل من المشارقة أيضا، فقَلَّ كتاب مشرقي ترجم لأهل زمانه إلا وقد ترجم له حتى وصفوه بغزالي عصره.

فهذه القامة العلمية والمفخرة المغربية التي لو جاز شرعا لصُنع له تمثال احتفاء بمكانته وإحياء لذكراه يواجه بجناية كبيرة من الوزير المؤرخ أحمد التوفيق فيختزل مسيرته الإصلاحية العظيمة التي صارت بذكرها الركبان في رسالة يتيمة فريدة وجهها للسلطان المولى إسماعيل، وكأنه يتحدث عن شخصية مغمورة منسية لم تحفظ المكتبة المغربية لها إلا رسالة واحدة، فأي إجحاف هذا يا معالي الوزير؟

وفي بداية انتقاده نقل السيد الوزير عن العلامة اليوسي قوله: “واعلم أن على السلطان حقوقا ثلاثة: هي جمع المال في حق وتفريقه في حق، وإقامة الجهاد، والانتصاف من الظالم للمظلوم وهذه الثلاثة كلها قد اختلت في دولة سيدنا”.

فلم يكن الوزير التوفيق دقيقا في النقل ولا أمينا فيه، فقد قال اليوسي رحمه الله كما الرسالة الصغرى للمولى إسماعيل وهي مطبوعة ضمن رسائله (1/238): “ثم نقول: إن على السلطان حقوقا كثيرة لا تفي بها البطاقة، نقتصر منها على ثلاثة هي أمهاتها…” ثم ذكر ما ذكره الوزير الذي تصرف فيه أيضا مع أنه يقرأ ولا يرتجل.

وفي حصر الوزير المنسوب للحسن اليوسي غلط وافتئات، وبخاصة إذا عُلم أن الوزير استغل هذا الحصر في تكميم العلماء اليوم وتقزيم دورهم الإصلاحي داعيا إلى علمنة المجال الديني مدعيا أن الثلاثة تكفلت بها الدولة وأنه لا مجال لتدخل العلماء فيها.

فأخذ المال من حقه وصرفه في حقه؛ تكفلت به مصلحة الضرائب.

والاقتصاص للمظلوم من الظالم؛ تكفلت به وزارة العدل.

وإقامة الجهاد وحفظ الثغور؛ من مهام وزارة الدفاع.

ولهذا زعم “أن العلماء قد كُفُوا مؤونة المطالبة بهذه الإصلاحات” وهي دعوة صريحة إلى علمنة المغرب بالفصل بين الدين وبين شؤون الحياة وبخاصة إذا استحضرنا قول الوزير بعد ذلك “للعلماء دور جوهري في إصلاح المجالات الأساسية المتعلقة بالجوانب المذكورة وهي المال والأمن والعدل، بإصلاح الإنسان…”

فهل هناك علمانية أكثر من هذه..؟؟

وهل تم فرق بعد هذا -في عين السيد الوزير- بين علماء المسلمين وبين رجال الدين النصارى الذي لا دخل لهم في الحياة العامة تقنينا وتشريعا وتصويبا وإنما يكتفون بإصلاح الفرد سلوكا وأخلاقا مبتعدين كل البعد عن كل ما له صلة بالدولة والسياسة والحكم؟؟

إن للعلماء في الإسلام دور في كل ميادين الحياة ومنها المجالات الثلاثة التي ذكر اليوسي رحمه الله فلهم أن يطالبوا بإلغاء القوانين وتصويبها وتحكيم الشريعة فيها وإلغاء الجائر والظالم منها…

ومن مظاهر الإساءة للإمام اليوسي قول معالي الوزير واصفا كلامه: “ونحن اليوم حين نقرأها نتعجب لهذا الحكم العدمي الذي فيه اتهام للسلطان في شأن حقوق الرعية”.

هكذا، مع أن أبا علي اليوسي رحمه الله اعتذر للسلطان بعدم الاطلاع في الرسالة نفسها بعد هذه الفقرة بقوله: “وهذه الثلاثة كلها قد اختلت في دولة سيدنا، فوجب عينا تنبيهه لئلا يعتذر بعدم الاطلاع أو الغفلة، فإن تنبه وفعل فقد فاز، وفي ذلك صلاح الوقت وصلاح أهله، وسبوغ النعمة وشمول الرحمة، وإلا فقد أدينا الذي علينا”.

فلماذا ضرب السيد الوزير صفحا عن هذا الاعتذار، ثم لماذا تجرأ على هذا العالم الكبير في الوقت الذي نجد السلطان قد شمله بعطفه وحلمه وسعة صدره لما يعلم من مكانته، وعلمه ومنزلته، ثم لما انقدح في نفوس السلاطين من تعظيم أهل العلم الصادقين الناصحين وإجلالهم.

فلِمَ لم يَسَع الوزير ما وسع سلطانا تربع على عرش المغرب خمسة وخمسين عاما، أم أنه ملكي أكثر من ملك..؟؟

بل زاد السيد الوزير تجاسرا فوصف خطاب العالم الفقيه اليوسي للسلطان بأنه “احتجاج على رؤوس الملأ بالأحكام المبدئية في غياب اعتبار الأحوال” مع أن الرسالة كانت خاصة بين عالم وسلطان لم يتعمد العالم نشرها ولا بثها في الناس.

وزاد الوزير قدحا فلمز العالم بـ “استعراض القدرات البلاغية للعالم ولفت الانتباه للوجود” وكأنه يتحدث عن شخصية مغمورة تمتطي مخاطبة السلطان للظهور الشهرة، والواقع أن الإمام اليوسي قد سارت بذكر منزلته ومكانته الركبان شرقا وغربا ولعل هذا ما يفسر أدب السلطان معه وحرصه على قربه والإفادة منه.

ووصف الوزير خطاب العالم اليوسي بأنه “احتجاج ناصح لم يراع آداب القول اللين إذ جاء إشهادا على السلطان منشورا على العموم فأشبه فضيحة أكثر مما هو نصيحة” فبغض النظر عن لمز الرسالة بأنها لم تراع أدب القول اللين وهو اتهام عار عن الصحة كما سبق؛ هل يستطيع معالي الوزير أن يدلل بالوثائق على أن العالم اليوسي نشر خطابه على رؤوس الأشهاد؟؟

أم أن مجرد حفظ هذه الوثيقة التاريخية النفيسة اعتبره الوزير إشهارا لها في زمانها؟؟

هذه المغالطات التي أقالها الوزير في حضرة جمع كبير من علماء المغرب جعلت العلامة مصطفى بن حمزة يقدم التعليق والتصحيح في مقدمة مداخلته عملا بالقاعدة الشرعية “لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة”.

فافتتح كلمته بعد البسملة والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: “نحن علماء، سواء كان ذلك صوابا أو خطأ والذي يهمنا الآن هو أخذ ما نواجه به لحظتنا ومستقبلنا…” في إلماحة واضحة تعقيبية على كلمة الوزير مفادها أن الجسم العُلَمَائي لا ينبغي أن يقع تحت ضغط إملاءات السياسي أو المؤرخ.

ثم قال في عبارة صريحة عن كلمة الوزير: “هذا الذي ذكره ليس علم يوم وليلة؛ هذا سبر وغوص في التاريخ بوحي تخصصه وتعامله…”

وكأنه يقول إن القراءة التي قدمها الوزير ليست نابعة من دائرة الاختصاص الشرعي؛ وإنما هي قراءة تاريخية اجتماعية قابلة للأخذ والرد والعرض على الميزان الشرعي الذي انطلق منه العلماء المُنتقدون من قبل الوزير.

ثم قال: “أنا لا أقول بأن كل ما قاله السيد الوزير يجب أن نوافق عليه. لا، ولكنه موضوع للنقاش..” وهذه كافية في بيان معارضة العالم للمؤرخ.

ثم أبى العلامة بن حمزة إلا أن يضع كلام السيد الوزير في محله وموضعه ومنزلته من العلم الشرعي فقال: “أنا حينما أستمع إليه فإنما أستمع إلى نظير ماكس فيبر وهو يتحدث عن الدين وعن البروتستانية تحديدا…”

وماذا يعني تشبيه نظرة الوزير للإسلام بنظرة ماركس للبروتيستانتية؟

إنه عالم الاجتماع والتاريخ الألماني الذي له نظريات حول الرأسمالية وعلاقتها بالنصرانية وقد ألف في ذلك كتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”.

وحين يشبه العلامة بن حمزة عرض الوزير بمرافعات ماكس فيبر فهذا بقدر ما يعد تزكية ومدحا للوزير باعتباره مؤرخا واجتماعيا؛ إلا أنه في الوقت نفسه يعد تحجيما للكلمة التوفيقية وتحديدا لمجالها والإطار الذي صدرت عنه، بكونها نابعة من تخصص خارج عن العلوم الشرعية المعتبرة.

إننا إذ نتفهم دفاع الوزير عن مشروعه واستجلابه للشواهد التاريخية لتعزيز موقفه، فلا نتفهم بالمرة أن يتم ذلك بتزوير التاريخ وتحريف الحقائق وتغيير الوقائع، مع الإساءة لرموز مغربية، وقامات علمية كبيرة، حملت مشعل الرسالة والتجديد والجهاد والاجتهاد، وقدمت في سبيل ذلك الغالي والنفيس، وجادَت بحريتها وروحها وحياتها كي يحيى الأخرون وينعموا بالحرية والأمن والأمان، فما لم نوفِّ لهؤلاء حقهم ونعترف بجميلهم، فلا للحق نصرنا ولا للتاريخ حفظنا، ولا لقدوات المغرب وفّينا الشكر ولجيل الحاضر والمستقبل أسْدَينا النصح.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M