على هامش المؤتمر الثالث لجمعية مهندسي العدالة والتنمية

20 أكتوبر 2025 21:02

على هامش المؤتمر الثالث لجمعية مهندسي العدالة والتنمية

هوية بريس – سعيد الغماز

عقدت جمعية مهندسي العدالة والتنمية مؤتمرها الثالث، وتم تجديد الثقة في المهندس عبد اللطيف سودو رئيسا للجمعية. ونظرا لما يكتسيه دور المهندس في التنمية وبناء المجتمع بشكل عام، وكذلك تعزيز دور المهندس في ظل الأوراش الكبرى التي تعرفها بلادنا، يتناول هذا المقال تعريف المهندس، ودوره الحيوي في أي مشروع تنموي أو طموح اقتصادي وتقدم اجتماعي.

يُعتبر المهندس أحد الأعمدة الأساسية في بناء الحضارات الحديثة، فهو العقل المفكر وراء كل مشروع عمراني، وكل آلة صناعية، وكل منظومة تكنولوجية تتُسهِّل حياة الإنسان. وإذا كانت التنمية بمفهومها الشامل تعني الارتقاء بالمجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فإن المهندس هو اليد التي تُحوِّل الأفكار إلى واقع ملموس، وهو الرابط بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي الذي يخلق القيمة المضافة للمجتمعات.

المهندس ليس مجرد شخص يتقن الحسابات أو يرسم التصاميم، بل هو فاعل تنموي يمتلك رؤية استشرافية قادرة على تحويل الموارد المحدودة إلى مشاريع مستدامة. فحيث يوجد الإبداع الهندسي، توجد التنمية، وحيث يغيب التفكير الهندسي المنهجي، تتراجع الأمم وتتعثر المشاريع.

من هو المهندس؟

المهندس هو المتخصص في تطبيق العلوم والمعارف التقنية والرياضية، لحل المشكلات العملية التي تواجه الإنسان في مجالات الحياة المختلفة. ومن الناحية المرتبطة بالتنمية، فإن المهندس هو كائن قادر على خلق الثروة لتتقدم الأمم والشعوب.

ويُعدّ علم الهندسة أحد أقدم العلوم التي عرفتها البشرية. ويجب في هذا الصدد الإقرار أولا أن التطور الكبير الذي عرفته الهندسة في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، لا يجب أن يحجُب عنا حقيقة أن الهندسة كتخصص قديمة قدم الإنسان. بل يمكن أن نقر أن الهندسة صاحَبَت التطور الإنساني منذ العصر الحجري، حيث كان الإنسان يصنع أدوات عيشه بنحت الحجر لابتكار أدوات تطوره.

بدأ الحديث عن الهندسة منذ العصور القديمة مع بناء الأهرامات في مصر، والمعابد في اليونان، والسدود في بلاد الرافدين.

لكن أهم تجليات دور المهندس عبر التاريخ، يتحدد في الأهرامات التي تعود إلى حوالي 2200 سنة قبل الميلاد. وكذلك في علوم الفلك التي أبدعت فيها حضارة المايا في أمريكا الوسطة وخاصة جنوب المكسيك والهندوراس.

الأبحاث التاريخية في مجال الهندسة، تمضي إلى أبعد من ذلك.

نعيش في وقتنا الراهن زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي. ومن تجليات هذا العصر ما يُعرف بالروبوتات. ومن الخطأ الاعتقاد أن الروبوت يعود لعصر الذكاء الاصطناعي الذي نعيش أطواره. بل إن أول روبوت يعود إلى القرن 12 ميلادي وهو من صنع مخترع العصر الإسلامي أبو العز الجزري.

هذا المخترع صنع روبوت لأحد السلاطين أطلق عليه اسم “نافورة الطاووس”، وهو على شكل إنسان فوق رأسه طائر الطاووس، ويحمل في يده إبريقا مليئا بالماء، وفي اليد الأخرى منشفة. ولما يحين وقت الصلاة يُصفِّر الطائر معلنا دخول وقت الصلاة، ويتقدم الروبوت إلى الأمام ليصُب الماء للمتوضئ بكمية معينة، ثم يضع المنشفة تحت تصرفه قبل أن يعود إلى مكانه.

الروبوت في وقت الذكاء الاصطناعي ليس إلا آلة ذكية تُحاكي (simule) كيفية تفاعل البشر مع البرامج لأداء مهام متكررة قائمة على قواعد محددة. هذا ما قام به الجزري بروبوت “نافورة الطاووس” حيث قلد حركات الإنسان وجعلها تتم عن طريق روبوت يعمل بشكل آلي.

من جهة أخرى يقوم الروبوت في عصر الذكاء الاصطناعي على أساس قاعدتين: تقنية الحركة الذاتية (Automatisme) والذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكسه روبوت الجزري الذي يتحرك بشكل آلي ويستعمل الذكاء في تحديد أوقات الصلاة. وقد احتار العلماء في معرفة الكيفية التي يعتمدها هذا الروبوت في تحديد أوقات الصلاة بشكل تلقائي.

ومع تطور الزمن، لم يعد المهندس مجرد بنّاء أو مخترع، بل أصبح شخصية متعددة التخصصات تشمل مجالات الهندسة المدنية، والميكانيكية، والكهربائية، والإلكترونية، والكيميائية، والمعمارية، وهندسة الحاسوب، والبيئة، والطاقة المتجددة….إلخ

المهندس الحديث يجمع بين العقل العلمي والخيال الإبداعي، وبين التحليل الدقيق والقدرة على اتخاذ القرار. كما أنه لا يعمل بمعزل عن المجتمع، بل يتفاعل مع حاجاته، ويصمم الحلول التي تراعي الإنسان والبيئة والاقتصاد في آنٍ واحد.

المهندس كفاعل في التنمية الاقتصادية:

لا يمكن لأي اقتصاد أن يتطور بدون هندسة.فالمهندسون هم الذين يخططون للبنية التحتية التي تُسهم في جذب الاستثمارات وتطوير القطاعات الإنتاجية.فالطرق والموانئ والمطارات والمناطق الصناعية كلها ثمرة لجهد هندسي جماعي منظم.

في القطاع الصناعي مثلاً، يُعدّ المهندس محوراً أساسياً في تطوير خطوط الإنتاج وتحسين الجودة وتقليل التكاليف. وفي الزراعة، يساهم المهندس الزراعي في تحديث أساليب الري واستعمال التقنيات الذكية لتحسين الإنتاجية ومواجهة التغيرات المناخية. أما في قطاع الطاقة، فيعمل المهندسون على تطوير مصادر نظيفة ومستدامة مثل الطاقة الشمسية والرياح.

وبالتالي، فإن التنمية الاقتصادية ليست سوى ترجمة ميدانية لجهود المهندسين الذين يحولون الرؤى الاقتصادية إلى مشروعات ملموسة، ويضمنون استمراريتها وكفاءتها.

المهندس والتنمية الاجتماعية:

قد يبدو لأول وهلة أن دور المهندس يقتصر على البناء والتصميم، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فالمهندس في العصرالحديث، يساهم في تحسين نوعية حياة الإنسان عبر ابتكار حلول هندسية تراعي السلامة والراحة والإستدامة.

الهندسة المدنية مثلاً تهتم بتوفير سكن لائق ومرافق عامة آمنة، والهندسة الطبية تطور الأجهزة التي تنقذ الأرواح وتحسّن الرعاية الصحية، والهندسة البيئية تسعى لحماية الموارد الطبيعية وضمان مستقبل صحي للأجيال القادمة، والهندسة المعلوماتية تعمل على تطوير أساليب التواصل البشري.

من خلال هذه المقاربة، يصبح المهندس شريكاً في بناء الإنسان قبل أن يكون منشغلاً ببناء الحجر. فهو لا يخدم التنمية المادية فحسب، بل يرسخ قيماً اجتماعية مثل العمل الجماعي، والدقة، والمسؤولية، والابتكار.

المهندس في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي:

يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، تقودها علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. وهنا، يتجدد دور المهندس ليتحوّل من مُنفّذ للتصاميم إلى مبتكر للأنظمة الذكية التي تراقب وتتحكم وتُحلل وتتعلم.

المهندس العصري لم يعد يعتمد فقط على الأدوات المادية، بل يوظف البيانات والخوارزميات والنماذج الافتراضية لتطوير حلول دقيقة وسريعة. على سبيل المثال، المهندس المعماري اليوم يستخدم تقنيات المحاكاة (simulation)ثلاثية الأبعاد لتصميم مدن ذكية صديقة للبيئة، والمهندس الصناعي يوظف الذكاء الاصطناعي لتحسين الإنتاج وتقليل الهدر لضمان الاستدامة.

إن الثورة الرقمية منحت المهندس قوة جديدة، لكنها في الوقت نفسه حمّلته مسؤولية أكبر: أن يبتكر دون أن يُدمّر، وأن يطوّر دون أن يُخلّ بتوازن الإنسان والطبيعة.

المهندس والتنمية المستدامة:

من التحديات الكبرى التي يواجهها العالم اليوم ، قضية الاستدامة. فالتنمية لم تعد تقاس فقط بالناتج الداخلي الخام أو بعدد المصانع والمشاريع، بل بمدى انسجامها مع البيئة وعدالتها الاجتماعية.

المهندس هو العقل الذي يمكنه تحويل هذا المفهوم إلى واقع. فبفضل تفكيره التحليلي وقدرته على الابتكار، يستطيع تصميم أنظمة طاقة نظيفة، ومبانٍ موفرة للطاقة، وشبكات نقل مستدامة، وتقنيات تدوير للنفايات تقلل الأثر البيئي.

على هذا الأساس يمكننا القول إن المهندس، يُعتبر حارساً للتوازن البيئي ومهندساً للأمل لأنه يسعى لجعل التقدم التكنولوجي يخدم الأجيال الحالية دون أن يضر بالأجيال القادمة.

في الختام نقول إنالمهندس هو روح التنمية وعقلها المدبّر. بفضله تتطور المدن وتتحسن حياة الناس وتُبنى الأمم. إنه يجسد العلاقة المثالية بين الفكر والعمل، بين العلم والواقع، وبينالإنسان والطبيعة.

ولذلك، فإن أي مشروع تنموي لا يمكن أن ينجح من دون إشراك المهندسين في مراحله كافة: من التخطيط إلى التنفيذ إلى التقييم. إن الاستثمار في تكوين المهندسين، وتحفيزهم على الإبداع، هو في الحقيقة استثمار في مستقبل الوطن.

فالهندسة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة حضارية، ورسالة إنسانية تهدف إلى بناء عالم أفضل يسوده التوازن والتقدم والكرامة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
20°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة