غَرامُ القهوة.. حين تصارع الفقهاء حولها
هوية بريس – محمد شعبان أيوب (محرر تاريخ)
لم تكن شجرة البن قد اكتُشفت حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وكان اكتشافها على يد الشيخ الصوفي العارف أبي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس (ت 909هـ/1504م) حين كان يمرُّ في بعض سياحاته، فقد رأى شجرة البن، فاقتات من ثمرها، وقد أعجبته هذه النبتة؛ إذ رأى فيها جلبًا على السهر، وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه قوتا وشرابًا، وأرشد أتباعه ومريديه إلى ذلك فانتشرت في اليمن ثم في بلاد الحجاز ثم في الشام ومصر، وأصبح العيدروسي “مبتكر القهوة المتّخذة من البن المجلوب من اليمن” بحسب وصف المؤرخ ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1679م).
القهوة بين الحِل والحُرمة
في عام 917هـ/1511م وحين كان يمر ناظر الحرم الشريف في مكة المكرمة الأمير المملوكي خاير بك من الكعبة إلى بيته رأى جماعة ليلة 23 ربيع الأول تحتفل بالمولد النبوي الشريف، وقد وجد بينهم شيئًا يتعاطونه على هيئة الشربة الذين يتناولون الخمر ومعهم كأس يديرونه ويتداولونه بينهم، “فسأل عن الشراب المذكور فقيل هذا شراب اتخذ في هذا الزمان، وسُمي القهوة يُطبخ من قشر حبّ يأتي من بلاد اليمن يُقال له البُن، وأن هذا الشراب قد فشا أمره بمكة وكثر وصار يُباع في مكة على هيئة الخمّارات، ويجتمع عليه بعض الناس بالرهن وغيره مما هو ممنوع في الشريعة المطهّرة”.
لقد أقلق هذا الأمر ناظر الحسبة وهو المسئول عن الأخلاق والآداب العامة، فدعا في اليوم التالي القضاة والعلماء وطلبة العلم وغيرهم مثل قاضي القضاة صلاح الدين بن ظهيرة الشافعي – وأسرة آل ظهيرة كان لها باع في الفتيا والقضاء في مكة المشرفة في ذلك العصر -والقاضي نجم الدين بن عبد الوهاب المالكي وغيرهم، وشرعوا في مناقشة هذه القضية/النازلة الجديدة، وفي نهاية الجلسة اتفق الحاضرون على التمييز بين القهوة نفسها وبين ما يُصاحب شربها من مظاهر وأحوال، بيد أنهم تركوا الأمر للأطباء كي يُدلوا برأيهم في هذا “النبات” وتأثيره على البدن أو العقل، وبالفعل أحضر الأمير المملوكي أكبر طبيبين في مكة حينها الأخوين نور الدين الكازروني وعلاء الدين الكازروني، اللذين شهدا بأن المشروب المتخذ من قشر البن بارد يابس مفسد للبدن المعتدل!
لكن أحد الفقهاء الحاضرين في تلك الجلسة الساخنة اعترض على هذا القرار معلقًا بأن البن مباح ومفيد، فردوا عليه بأنه “لو كان مباحًا فقد جرّ إلى معصية وكل طاعة جرّت إلى معصية سقطت”. لذا أصدر الأمير خاير بك قراره وأشهر النداء في مكة وضواحيها وطرقها بالمنع من شرب القهوة، وصدر القرار في 28 ربيع الأول سنة 917هـ، لكن قرار خاير بك كان الطلقة الأولى لقرن قادم ظل الجدل فيه ساخنا بين المؤيدين والمعارضين من الفقهاء والقضاة، ورجالات الدولة من السلاطين والولاة وغيرهم.
لقد كانت “القهوة” اسمًا على الخمر منذ عصر الأمويين والعباسيين، وهو مصطلح نراه في بطون المعاجم العربية، فابن منظور في لسان العرب، المؤلَّف قبل اكتشاف البن بقرنين تقريبا، يقول: “القهوة: الخمر، سُميت بذلك لأنها تُقهي شاربها عن الطعام أي تُذهب بشهوته”. لذا كانت دلالات الكلمة سلبية عند عموم الفقهاء والناس، وسرعان ما أظهر المؤيدون حقيقة الفارق بين “القهوتين”، فتلك قهوة تُذهب بالعقل، وهذه قهوة تنشط الذاكرة، وتُعين على أداء المهمات!
حين أرسل الوالي المملوكي ذلك المحضر إلى السلطان قنصوه الغوري في القاهرة، صدّق على ما تم في ذلك الاجتماع، ومنع شربها، وسرعان ما أيده أحد أكبر فقهاء الإسلام في عصره الإمام زكريا الأنصاري (ت 926هـ/1520م)، لكن محبي هذا المنتج الجديد سرعان ما انطلقوا للأنصاري وهم مجموعة من فقهاء المالكية، فأراد الرجل أن يقف على حقيقة الأمر كما يخبر صاحب “النور السافر عن أخبار القرن العاشر” فأحضر قشر البن، ثم أمر بطبخه/غليه ثم أمر هؤلاء المدافعين عن القهوة وحلّها بشُربها “ثم فاتحهم في الكلام فراجعهم فيه ساعة زمنية فلم يرَ منهم من الكلام لا تغيرا ولا طربًا فاحشا بل وجد منهم انبساطًا قليلا”. ولم يلبث الأنصاري أن صنّف في حلّها مصنفا قاطعا بالحل.
صراع المؤيدين والمعارضين!
لكن ذلك لم يُعجب المعارضين في مكة والقاهرة ودمشق، مثل الشيخ الكازروني الذي ألّف رسالة في تحريمها، في المقابل أيّد بعض العلماء تحليل القهوة كالشيخ أبي بكر المكي الذي ألف رسالته “إثارة النخوة بحُكم القهوة”، ثم رد برسالة أخرى “إجابة الدعوة بنصّ القهوة”.
سرعان ما صارت تجارة البن رائجة، بل ساعدت على النهوض الاقتصادي داخل الدولة العثمانية التي كانت قد استولت على الأقطار العربية حينذاك، وحين توارت مصر كمركز أساسي في تجارة الترانزيت كوسيط حصري في تجاره البهارات “الكارم” بين الهند وأوروبا لمدة عدة قرون – والتي اكتشفت طريقا آخر غير مصر في نهاية العصر المملوكي هو طريق رأس الرجاء الصالح ما أدى إلى اضمحلال هذه التجارة – فإن زراعة القهوة وتجارتها أعادت الزخم مرة أخرى للتجارة الداخلية بين أقطار الدولة العثمانية، ورأينا أن كبار التجار مثل إسماعيل أبو طاقية شهبندر تجار مصر في القرن السابع عشر الميلادي يجني الألوف من ورائها، بل أسهم أبو طاقية في رواجها من خلال بنائه مقهى في وسط القاهرة في بداية ذلك القرن!
أنشد الفقهاء والأدباء المؤيدون لحلّية القهوة شعرا، وألّفوا في الدفاع عنها رسائل ضد الممانعين في ذلك القرن،”قرن الجدل حول القهوة”، العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، فهذا الشيخ عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ تلميذ العلامة ابن حجر الهيثمي يقول فيها:
قد شَرِبنا قهوة بُنية … ولها شربنا غَدا بالنيِّه
لَوْنهَا قد حَكي أذا يبَمِسْكٍ … أَو زبَاد وسط الزباد الجلية
ويقول على لسانها هائمًا:
أنا المعشوقة السمرا … أجلى في الفناجين
وعُود الهند ليعطر … وذكري شاع في الصين!
والمتتبع لسير “العاشقين والمغرمين” للقهوة في ذلك القرن يجد عجبًا، فقد روي عن شمس الدين أبي عبد الله محمد السُّودي اليمني (ت 932هـ/1526م) أنه كان “مولعا بشرب القهوة ليلا ونهارا، وكان يطبخها بيده ولا يزال قدْرها بين يديه” وكان ينسى رجله تحتها في النار!
لكن يبدو أن القهوة كانت تجر الفريقين الممانع والمؤيد إلى حلبة الصراع، ففي دمشق كان الشيخ أبو الفتح المكي (ت 975هـ/1567م) الذي يصفه بعض المؤرخين بأنه كان “مغاليا في نُصرة القهوة”، مشاهد ومواقف مع شيخ الإسلام يونس العيثاوي المناوئ للقهوة، والمفتي بحرمتها؛ فقد حصل بينهما شقاق “طال أمده، وتأجّج حسده”، وحين اجتمعا مرة لدى قاضي الشام العثماني علي أفندي الرومي وتناقشا فيما يتعلّق بالقهوة، وذكر كل منهما دليله فظهر الشيخ أبو الفتح المكي في البحث على الشيخ يونس حيث لم تكن أدلة التحريم واضحة، وقد تصاعد الخلاف بين العالمين المؤيد والمعارض للقهوة خلال عهد الوالي العثماني الجديد لدمشق لالا مصطفى باشا الذي بقي في المدينة خمس سنوات (971- 976هـ/1563- 1568م)، وكان هذا الوالي شديدا عسوفا، لكنه محترم للفقهاء، ويبدو أنه كان من أنصار القهوة، لذا امتدحه الشيخ أبو الفتح، بينما اعترض عليه الشيخ يونس العيثاوي.
وبينما كانت القهوة تشق طريقها في صفوف المجتمع كله، وأصبح لها بيوت/ أماكن مخصصة لشربها (القهاوي)، انقلب الوضع فجأة سنة 968هـ/1572م حين صدر حكم سلطاني من السلطان سليمان القانوني جاء إلى القاهرة “يقضي بمنع المنكرات والمسكرات والمحرمات، ويُغلق أبواب الحانات والخانات، ومنع استعمال القهوة، والتجاهل بشربها، وهدم كوانينها وكسر أوانيها”، وصحب تنفيذ هذا الفرمان السلطاني بطشا وشدة من “العسس”، ويروي المؤرخ الجزيري المعاصر لهذه الأحداث، والمؤيّد لشرب القهوة بمرارة قائلاً: “وضربوا وأشهروا، وهدموا البيوت، وكسروا أوانيها المحترمة الطاهرة التي هي مال لرجل مسلم … ولم يبلغنا فعلهم مثل ذلك في أواني الخمر والحشيشة”.
انتصار القهوة!
لكن سرعان ما تراخت الدولة عن هذه الفرمانات، وانتصر أخيرا عشّاق القهوة من الفقهاء والأدباء على خصومهم الذين صاروا في نهاية ذلك القرن قلة، ظاهرة الانتصار هذه أرّخها الأديب شاعر القاهرة في زمانه برهان الدين بن المبلّط (ت991هـ/1583م) الذي أنشد قائلاً:
أرى قهوة الّبنِّ في عصرنا… على شُربها النّاسُ قد أجمعوا
وصارت لشرابها عادة…وليستتضرّ ولا تنفع
لقد افتتح أول محلين لتقديم القهوة باستانبول عام 1554م، وكان صاحباهما من الشام، حيث جاء الأول من حلب، والآخر من دمشق، وعند نهاية القرن كانت القاهرة تعج بالمقاهي، وهو ما لاحظه أحد الرحّالة الأوروبيين – ويُدعى هنري كاستيلا (Henry castela) -الذي زار القاهرة عام 1600 – 1601م، ورأى “وجود العديد من الحانات التي يشرب فيها الناس طوال النهار ماءً ساخنا أسود اللون” مما يدل على أنه لم ير القهوة من قبل، ولاحظ رحالة آخر -يدعى يوهان فيلد Johan wild- الذي زار مصر في 1606- 1610م، أثناء وجوده في دمياط وجود ما أسماه “قهوة خانات”، أي مقاهي، حيث كان الناس يترددون عليها -على حد قوله- ليشربوا ماءً مغليا أسود اللون، ليترسخ وجود القهوة في المنطقة العربية والمقاهي منذ ذلك الحين.