في المقابر والأضرحة.. لا بدّ من حماية التوحيد
هوية بريس- محمد زاوي
ظواهر الناس وعاداتهم وأحوالهم ليست من الشريعة بالضرورة، بل قد لا تكون من مطلوب الواقع ولا العقل أيضا؛ قد يلحقها الزيغ والانحراف، وقد يكون الانحراف فيها عميقا وعريقا تعسر فيه يد الشرع والتربية. “علاقة المغاربة بالمقابر والأضرحة” تحمل بين طياتها نقاشا من هذا النوع، فهي ظاهرة مركبة لا تفهم إلا باستحضار كافة أبعادها، التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية والعقدية إلخ.
– في بعدها التاريخي: عجز سكان المغرب الأوائل، ما قبل تأسيس الدولة، عن توحيد العقيدة فعجزوا عن توحيد النظام السياسي. وهو ما عجز عن تحقيقه الفينيقيون والرومان أيضا، بمختلف أجهزتهم المادية والمعنوية. ولم تكن السيادة لتتحقق للإسلام على هذه الأرض بيسر ومن غير مشقة، بل بالرغبة والرهبة أصبح التوحيد عقيدة للناس. ومن قرائن ذلك، معارك الفتح، تفكك الدول المتعاقبة بعد مدة، فترات الفتنة والانفلات بين دولة ودولة، ظهور دول هامشية تشذ عن “إسلام الأصل” (البرغواطيون مثلا)، إلخ.
– في بعدها السياسي: هناك حاجة إلى القبر، فهو مجاز لدفن الرغبة، باب مفتوح لمعرفة المصير، مقياس لاختبار قابليات سياسية متعددة. هناك حاجة إلى الضريح، فهو مكتنز بالشرعية، مختبَر للطاعة، مجال مصغر لنموذج في السلطة. الذي يرى هذه الحاجة عليه ألا يهمل حاجة هي الأهم والأولى بالخدمة، نقصد الحاجة إلى التوحيد. كل توحيد في السماء ينتج توحيدا في الأرض، وكل توحيد في الأرض يدل على توحيد في السماء. تركيز السلط يطلب التوحيد، ليس في المغرب فقط، بل يقع هذا أيضا في الصين وروسيا وكوريا الشمالية إلخ، مجتمعات شرعت في البحث عن نموذجها الخاص في التوحيد. التوحيد ليس مسألة تكتيكية فحسب، وإنما استراتيجية تنتح تكتيكات، أصل لفروع. ولذلك وجب الحذر من تفكيكه بكثرة “الأولياء” وتعدد “محاضن التوسل والمشيخات”.
– في بعدها الاجتماعي: المجتمع طبقات أنتجها التفاوت الاجتماعي، مدن وقرى أنتجها التفاوت المجالي. لا تطوى هذه التفاوتات حقيقة، بقدر ما تشكل وحدات للتناقض. الرهان على ما يعتمل داخل كل وحدة للتناقض، يجب التحكم في وتيرته وحركته والعلاقة بين طرفيه. لا بد إذن من تناقضات أخرى تحافظ على الاستقرار، وتخضع التقدم لاختيارات سياسية واقتصادية بعينها، وقد يؤدي “القبر والضريح” دورا في إنتاج هذه التناقضات.
– في بعدها النفسي: النفس طاقة هائلة، لا وعي عميق وحابل بالآلام والأوهام، بالأفراح والأحزان، بالذكريات والآلام. وليست النفس معزولة عن واقعها بل منه وإليه، تنتجه وتنتج عنه، ينتج ألمها ويفرزه في نمط خاص من التعويض، يمرضها ويؤهلها إلى نوع خاص من الدفاع الذاتي. تفر النفس من الجنون بأي وسيلة، وفي عادتها تحتمي بالأقرب، والأقرب هو الرائج والمتاح، فترتمي في أحضانه بغرض الشفاء وبغض النظر عن مشروعيته شرعا وقبوله عقلا. إذا فُتِح الضريح، واستمرت الرواية عنه في الناس، فماذا ننتظر من مريض ضعيف يفتقر إلى علم سديد بحاله ومقتضى “تجريد التوحيد”؟
– في بعدها العقدي: زيارة المقابر جائزة، ولكن بعد نهي. ولو كانت من العقيدة ومما لا يُخاف من بعض آثاره لما منعت قبل نسخ، أي قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها” (أخرجه البخاري في “كتاب الجنائز”). أما إذا كان القبر “واسطة بين الحق والخلق” في عقيدة البعض، فسنكون أمام ضياع “القرب”، وهو من أهم مقتضيات التوحيد التي بها ينمو ويتعزز ويزيد تركيزه في النفس؛ كما سنكون أما ضياع “التجريد”، وبه يتسامى الرب تبارك وتعالى على أحوالنا ونزوعاتنا المتعلقة بالأشخاص والأشياء وما توحي به من أفكار.
القفز على هذه الأبعاد، على أحدها أو بعضها، يفقد القضية تركيبها ويعيب تصورها، و”الحكم على الشيء فرع عن تصوره” كما يقول المناطقة الأرسطيون.