في وداع رمضان ماذا تعلمنا من الدروس في علاج آفات النفوس؟
هوية بريس – أحمد شلاط
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله ، حل بالمسلمين هذا العام شهر رمضان وسبقه إلى ديارهم الوباء المعلوم، وكثر الحديث عنه وعن أخباره وضحاياه وسبل مواجهته، وكادت أحاديث كورونا أن تنسينا أحاديث الصيام، والنظر في دروس وفوائد الصيام المبثوثة فيها، وفي هذا المقال سأتناول بعض هذه الدروس للتذكير بها ” فإن الذكرى تنفع المؤمنين”(الذاريات55). و يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الأول للدروس الإيمانية، والثاني للدروس التعبدية، والثالث للدروس الأخلاقية، مع ملاحظة الآفات المقابلة لكل فائدة ، لأن تحقيق كل صفة والتحلي بها يضعف ما يقابلها من الصفات، ويدفع إلى التخلي عنها، وتلك هي التزكية التي شرعت العبادات لتحقيقها، والتي يجملها بعض أهل العلم في التحلية والتخلية.
أولا: من الدروس الإيمانية للصيام
درس الإخلاص وعلاج آفة الرياء
الإخلاص في الأعمال ركن في جميع العبادات، وهو ما دل عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور:” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى “. وقد اشتهر افتتاح البخاري صحيحه به، وفي الصيام ورد الحديث القدسي المشهور كذلك: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به… ) جزء من حديث رواه البخاري في كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ وعنده في باب فضل الصوم: “الصيام جنة …يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي …” يمكن تأمل العبارات التي وردت في هذه الأحاديث، وإشاراتها الواضحة إلى الإخلاص : “الأعمال بالنيات…”، “…فإنه لي…” ، “…من أجلي …” فالصيام من العبادات الخفية التي يمكن إخفاؤها ولا يعلم حقيقة تمامها إلا الله، فلا يمكن للمسلم أن يخفي ذهابه إلى المسجد، وغيره من الأعمال التي لا بد من ظهورها، ولكن يمكنه إخفاء صيامه، وأمثال هذه العبادات الخفية تدرب المؤمن على الإخلاص في الأعمال التي لابد من ظهورها للناس، حتى تسلم له من آفة الرياء الذي تشتهيه النفس التي تحب أن يتكلم الناس عنها، وعن تميزها وأعمالها… فتنحرف النية من قصد التقرب إلى الله، وهو الإخلاص، أول أركان قبول الأعمال، فتصير قصدا للتقرب إلى الناس، رياء و سمعة أو طلبا للشهرة ومدح الناس وحديثهم، وكل ذلك من الرياء المحبط للعمل وإن كان عظيما.
درس المراقبة وعلاج آفة الغفلة
من أركان الإيمان، الإيمان بصفات الله تعالى، ومنها العلم والسمع والبصر… فكل المؤمنين يعتقدون أن الله سميع بصير وبكل شيء عليم، وعليم بذات الصدور، والصيام يقوي هذا الاعتقاد لأن الصائم يكون في مواقف كثيرة بعيدا من مراقبة البشر داخل بيته وخارجه، ولكن لا يتجرأ على انتهاك حرمة الصيام ولو كان خاليا، لاستحضاره علم الله به، ودرس المراقبة هذا يجعل الصائم على طريق الإحسان بالمعنى الذي عرفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور قال : “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وبذلك يكون شهر الصيام مدرسة لتعليم الصائمين درس المراقبة، واستحضار سمع الله وبصره، و علمه بأعمال العباد وأقوالهم، فيكون بذلك علاجا لآفة الغفلة عن الله وعن استحضار هذه المعاني الإيمانية عند القول والفعل بحضور رقابة البشر وفي غيابها، التي تجعل أقواما ينطبق عليهم وصف القرآن الكريم: “يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم” (النساء108)
درس التقوى وعلاج آفة الأمن من مكر الله
في آيات الصيام في سورة البقرة قوله تعالى : “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”) البقرة: 183) فدرس التقوى في الآية واضح، وأنه من أهم مقاصد تشريع هذه العبادة العظيمة، وأهم معاني التقوى الخوف من الله الذي يدفع إلى طاعته واجتناب معصيته، ومن العبارات التي يرويها المفسرون عن ابن مسعود رضي الله عنه في معنى تقوى الله: أن يطاع فلا يُعصى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر ، والتقوى بهذا المعنى الشامل هي مفتاح كل خير، وإذا ترسخت وتقوت بالصيام امتثالا لأمر الله وطاعة له، واعتقادا أن الإفطار عمدا في رمضان من كبائر الذنوب، وتعلم الصائمون تعظيم شعائر الله رغبة في الثواب، وترك ما حرم الله رهبة من العقاب، سيكون شهر الصيام مدرسة لتعلم تقوى الله وطاعته، ولعلاج آفة الأمن من مكر الله وعقابه، التي تجعل الإنسان يستهين بالفرائض، ويتجرأ على المحرمات والمعاصي .
درس رجاء مغفرة الذنوب ودخول الجنة وعلاج آفة اليأس من رحمة الله
إذا دخل رمضان يستبشر المؤمنون بقدومه ويفرحون بموسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار، تصديقا منهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، و من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” هكذا رواه البخاري في كتاب الصوم باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية. ورواه في كتاب فضل ليلة القدر بتقديم “من صام رمضان …” وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري في أول كتاب صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان . فاجتمع في هذه الأحاديث ثلاثة أسباب لمغفرة الذنوب: صيام رمضان، وقيامه، وقيام ليلة القدر، بشرطي الإيمان والاحتساب.
ومن الأحاديث المبشرة للصائمين قوله صلى الله عليه وسلم : “ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان” رواه البخاري في كتاب الصوم باب الريان للصائمين . فإذا تعلم الصائم وتدرب خلال شهر رمضان على رجاء رحمة الله ومغفرته، سيكون الدرس علاجا لآفات اليأس والقنوط من رحمة الله، وما يعبر عنه البعض بتأنيب الضمير… التي قد تصل بالبعض إلى الاكتئاب ثم إلى الانتحار …
درس التوبة وعلاج آفة الإصرار على المعاصي
الدرس السابق له صلة بهذا الدرس، وقدمته لأن من يئس من رحمة قد يمنعه يأسه من التوبة، وقصدت إلى إفراد التوبة بدرس خاص لأهميتها، و لما يتحقق في شهر رمضان من توبة العصاة، والإقلاع عن شرب الخمور، وإقلاع آخرين عن التدخين، وتوبة الكثير من المذنبين من أنواع متعددة من الفجور، صحيح أن بعضهم يعود إلى عادته بعد انقضاء رمضان وهو خلل وغلط… ولكن من شأن تكرار هذا الدرس كل عام أن تتعلم فئة الدرس جيدا، فتتحول التوبة الموسمية إلى توبة نصوح بشروطها من ندم وإقلاع وعزم على عدم الرجوع إلى الذنب استجابة النداء القرآني: “وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”(النور 31) واستبشارا بمحبة الله الكريم الغفور الرحيم للمذنب التائب، التي دل عليها قوله تعالى: ” إن الله يحب التوابين”(البقرة 222).
ثانيا: من الدروس التعبدية للصيام
درس الصيام وعلاج آفة الأكل
من أركان الصيام الإمساك عن جميع المفطرات… والتعريف الذي يحفظه الأطفال في تعريف الصيام أنه الإمساك عن شهوتي البطن والفرج… هذا الدرس يتعلق بشهوة البطن والتي عبرت عنها بآفة الأكل، لأنها من أقوى الشهوات في الإنسان، وهي التي نسب القرآن إليها كسب الإنسان للمال تغليبا لدافع الأكل، ويمكن تقسيمها إلى آفتين: آفة أكل الحرام، وآفة الإسراف في أكل الحلال، فيقول الله تعالى في الأولى : “ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل” (البقرة 188) لأن الغالب على الإنسان أن يأكل مما يكسب، فدرس الصيام يعلم الصائم التحكم في شهوة الأكل، فمن يتدرب شهرا كاملا على ترك الطعام المباح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ينبغي أن لا تهزمه شهوته هذه فيأكل الحرام أو يشربه، أما آفة الإسراف وتجاوز الحد، والأكل في كل وقت، وتفضيل الأطعمة غير الصحية لأنها “لذيذة” وغيرها من الاختلالات المضرة، فالصيام أهم مدرسة للتدريب على تصحيحها …
فالصيام مدرسة للتدريب على التحكم في شهوة الأكل بأنواعه : أكل الحرام ، والإسراف في أكل الحلال، وأكل المضر ولو كان حلالا. وصيام الفرض متصلا تدريب على صيام المستحب متقطعا.
درس الصلاة وعلاج آفة الترك
تكرار المسلمين من الذين لا يصلون في كل رمضان للسؤال الشائع هل يصح صيام من لا يصلي؟ وامتلاء المساجد في رمضان، بل وامتلاء ما يتصل بها من ساحات، يدل على يقظة الضمير المؤمن، والتقدير العام لفريضة الصلاة، وليس هذا المقام للجواب عن السؤال، وإنما الغاية إبراز أثر شهر رمضان في تذكير المسلمين بعمود الإسلام فيبادرون إلى إقامته، ومنهم من يداوم، ومنهم تغلبه آفة الترك بعد انصرام شهر الصلاة والصيام، ومن شأن تعدد صحوة الضمير كل عام أن يأتي يوم يتعلم فيه الصائم أن فريضة الصلاة أهم من فريضة الصيام التي لا يستطيع التفريط فيها، وأن تأكيد القرآن بالتكرار على وجوب الصلاة أعظم من تأكيده على وجوب الصيام، فكثير من المداومين على الصلاة كانت بدايتهم من شهر رمضان في سنة تغلبوا فيها على آفة الترك …
درس قيام الليل وعلاج آفة الاكتفاء بالفرائض
يوجه خبراء تزكية النفس ومجاهدتها المؤمن إلى جعل التطوع سياجا لصيانة الفرائض، لأن من فرط فيه يوشك أن يفرط في الفرض، وقيام رمضان”التراويح” من التطوع الذي يحرص عليه عموم الصائمين ويداومون عليه، ومن شأن هذا الدرس أن يدربهم على الزيادة في صلاتهم ليلا ونهارا، صحيح أن قيام رمضان له فضل مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم:” من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”(الحديث سبق في درس رجاء المغفرة)، ولكن حتى خارج رمضان يبقى قيام الليل فضيلة، وهو أفضل الصلاة بعد المكتوبة، لقول رسول الله صلى عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، و أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” رواه مسلم في كتاب الصوم باب فضل صوم المحرم. ورغم هذا الترغيب كثير من المصلين يوترون بعد العشاء بثلاث ويجعلونه نمطا ثابتا.
درس تلاوة القرآن وعلاج آفة الهجر
رمضان شهر القرآن الكريم نزولا وقراءة وصلاة به في القيام، فجعل الله في صيام رمضان وقيامه فرصة سنوية للرجوع إلى دستور الهداية لعقول الحائرين، ولسلوك الضالين، وهو الشفاء والرحمة… في رمضان يستمع المصلون في المساجد لختم القرآن كاملا، ويختمه كثير منهم ختما فرديا مرة أو مرات، يحفزهم قوله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.“رواه الترمذي وغيره وصححه الشيخ الألباني. ويعملون بسنة الرسول صلى الله عليه الذي كان يدارسه جبريل القرآن في كل رمضان،(سيأتي الحديث بلفظه في درس الجود ) فيكون رمضان مناسبة لقطع آفة هجر القرآن، وهو أنواع ومراتب، منها: هجر الإيمان، و هجر العمل به، وهجر تدبره و تلاوته وهجر التحاكم إليه… كما ذكرها ابن القيم في الفوائد.
درس عمارة المساجد وعلاج آفة الكسل
هذا الدرس متصل بالدروس السابقة خاصة دروس الصلاة والقيام وتلاوة القرآن لأن محل أغلب ذلك هو المسجد، وأفردته لأننا في شهر رمضان نلحظ امتلاء المساجد ومحيطها بالمصلين وخاصة في التراويح، فهو درس كبير في تعلم عمارة المساجد وحضور الجماعة والجمعة، إلا لعذر كما حدث في هذه السنة، ومعلوم أن المعذور كالمريض والمسافر يكتب له من العمل مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما كما ورد في الحديث، ومن تدرب خلال شهر كامل على عمارة المسجد، تحركه الرغبة في اكتساب الأجر المضاعف بضعا وعشرين مرة كما ورد في الحديث المشهور، يمكن لهذا التدريب أن يعالج آفة الكسل عن عمارة المساجد ومقاومة هوى مشاهدة المباريات، عند إقامة الصلوات، أو احتساء بعض المشروبات في المقاهي بجوار المساجد، وقس على ذلك غيرها من بواعث الكسل…
أما من منعه العذر كالحجر الصحي، أو المرض أو السفر، فيكتب له ما كان يعمل بدونه، كما ثبت ذلك في الحديث.
دروس الذكر والدعاء وعلاج آفات اللسان
في شهر رمضان وثمرة لما سبق من الصلاة والقيام وعمارة المساجد وتلاوة القرآن… يتدرب لسان الصائم على الذكر بأنواعه، ومنه التسبيح والتكبير والتحميد، ومنه الاستغفار بالأسحار، والدعاء عند الإفطار، وعند السجود، وفي أكثر من مناسبة، وخاصة في أوقات الإجابة، ويبعده الصيام كليا أو جزئيا عن عادات مجالس الغيبة والنميمة، واللغو والكذب والزور… وغيرها من آفات اللسان الكثيرة والخطيرة، خاصة عندما يعلم الصائم أن ثواب صيامه قد ينقص بقدر ما ارتكب من الذنوب وأغلبها بلسانه، وهو ما حذر منه رسول الله صلى عليه وسلم في قوله:”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (رواه البخاري في كتاب الصوم باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم. فإذا عزم الصائم خلال شهر رمضان على ترك هذه الآفات، فيمكن أن تكون هذه العزيمة سببا في الترك حتى بعد رمضان.
ثالثا: من الدروس الأخلاقية للصيام
درس العفَّة وعلاج آفة الفواحش
من أركان الصيام الإمساك عن المفطرات ومنها الجماع، وعده من المفطرات يؤكد أن القصد من الصوم ليس ترك الطعام والشراب فحسب، بل ترك كافة الشهوات، حتى يتدرب الصائم على ضبط نفسه والتحكم في شهواتها فلا تجره إلى المهالك، ولأهمية الصيام في هذا التدريب على العفة وترك الفواحش أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب الذين لم تتيسر لهم القدرة على الزواج إلى الإكثار من الصيام فقال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”. رواه البخاري في كتاب النكاح ، باب من لم يستطع الباءة فليصم.
ويظهر درس العفة بوضوح في ترك الصائمين عموما، والمتزوجين خصوصا لشهوة الجماع، ولا يمنعهم إلا خوفهم من الله، فمن تعلم هذا الدرس وتدرب على ضبط نفسه والتحكم في شهوته، يمكن أن يكون مانعا له من الوقوع في الفواحش كالزنا والخيانة الزوجية وغيرها… فمن يترك الحلال يسهل عليه ترك الحرام… ومن مظاهر العفة عفة اللسان عن الكلام الفاحش، كما دل عليها الحديث: “الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل “. فالصيام يدرب الصائم على ترك الرفث ويعم كل فحش، ومن مظاهر العفة عفة العين عن النظر إلى الحرام، وعفة الأذن عن سماعه… وعفة عموم الجوارح عن المعاصي…
دروس الصبر والحلم والعفو وعلاج آفات الغضب والعنف
يكفي في الترغيب في الصبر قوله تعالى: “والله يحب الصابرين”(آل عمران 146) وشهر رمضان شهر الصبر، لأن فيه الصبر على مشقة عبادة من أعظم العبادات في الإسلام، ففيه الصبر على طاعة الله (الصيام)، والصبر على معصيته(ترك المفطرات)، وهما من أنواع الصبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «شهرُ الصبر، وثلاثةُ أيام من كل شهر: صومُ الدَّهر». أخرجه الإمام أحمد والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع. فصيام رمضان كل عام يعلم الصائمين ويدربهم على التحكم في نفوسهم وضبطها، ليتقوى ثباتها وتحملها للمشاق والأذى والاستفزاز، ورد الفعل العنيف، ومجاراة أهل الجهل في جهلهم، ومسايرة أهل الفحش في فحشهم. وفي رواية أخرى للحديث زيادة لطيفة، تدل على أثر الصوم في سلامة الصدر من الغضب و الحقد والعداوة والبغضاء، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: “صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر” . رواه البزار والبخاري في التاريخ ، وصححه الألباني ، ومن معاني وحر الصدر: الحقد والكراهية والغضب .
ومن الأحاديث المشهورة والتي تتكرر على مسامع المسلمين في كل رمضان، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” الصيام جُنَّة فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يصخب فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” (جزء من حديث رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الصوم باب هل يقول إني صائم إذا شتم ، وفي رواية عنده في باب فضل الصوم “الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين…” وفي الحديث منع الصيام للصائم من الرفث ويعم كل فحش، ومن الصخب ويعم رفع الصوت الدال على الغضب والانفعال والعنف، وأن الصوم يثمر الصبر على الأذى وتحمل الإساءة، وأن الصائم لا يليق به الجواب بالمثل.
وبذلك يكون الصيام مدرسة لتعلم الصبر، وهو بمثابة الأم لكثير من الفضائل كالحلم والتؤدة والعفو، وعفة اللسان والجوارح، ووقاية من أضدادها كالجهل والسب والشتم، والكلام الفاحش، والعنف والغضب والانتقام والثأر …
درس رد المظالم وعلاج آفة الظلم
في أحاديث المغفرة بالصيام أو بغيره من الأعمال كالصلاة والجمعة … استثناء الكبائر، والتي قد تكون من حقوق الله أو حقوق العباد …كما في قول رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “الصَّلوات الخَمْسُ، والجُمُعةُ إِلى الجُمُعَةِ، ورمضان إلى رمضان مكفَّرات لِمَا بَيْنهُنَّ، إذا اجتنب الكبَائِرُ “. رواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر، فمن شأن هذا الاستثناء الوارد في الحديث أن يحرك الصائمين ويدفعهم إلى السؤال والبحث عن الكبائر التي لا تغفر بالصيام، وقد يكون ذلك مقدمة للتوبة منها باستكمال شرط أداء حقوق الله، ورد المظالم إلى أهلها أو التحلل منها، وإذا تحقق هذا الدرس سيكون الصيام مناسبة للصلح بين الناس، وإبراء الذمم من حقوق الله، ورد حقوق العباد، كحقوق الضعفاء من أيتام ونساء، وأجراء… وحقوق الأقارب كعقوق الوالدين… فيكون شهر الصيام مدرسة للعفو والصلح والغفران، وعلاجا لآفة الظلم والعدوان.
درس الوسط والاعتدال وعلاج آفة الإسراف
ضبط أوقات الأكل والشرب وجعل فترة الصيام أطول من وقت الإفطار، من أهم دروس الصيام في التحكم في أوقات الأكل والشرب، والتي من شأنها أن تصحح العادات المعاصرة التي تقوم على الأكل في كل الأوقات، واعتياد الأكل في أوقات متقاربة من اليوم ، بحيث يصير عدد الوجبات أربعا أو خمسا أو حتى ستا عند البعض، والخاطئ من هذه العادات بعضه متعلق بآفة الأكل التي سبق الحديث عنها، وهنا أردت تناول الموضوع في علاقته بآفة الإسراف والتبذير، فالصائم الذي يعلمه الصيام ويدربه على التحكم في أوقات الأكل، ويدربه على الاكتفاء بوجبتين متباعدتين بمدة تصل إلى 16 أو 17ساعة حسب طول اليوم وقصره، لن تهزمه نفسه فيخضع لعادات الوجبات الخمس والست… فيقع في الإسراف و التبذير، فالصيام الصحيح يدرب الصائمين على حسن امتثال قوله تعالى:”و كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين”(الأعراف31). وقد ربط بعض أهل العلم الصيام بالاقتصاد والاعتدال في الإنفاق فقال: إن المسلمين لو كانوا يكتفون بوجبتين يمكن أن يدخروا في رمضان ما يعادل قيمة وجبة. أما ما اعتاده أغلب المسلمين من العادات الغذائية في رمضان جعل نفقة شهر رمضان أكبر من نفقة غيره من الشهور، وسلوك بعضهم يستحق الوصف بالإسراف والتبذير، وهو ما يجعل مستوى الاستفادة من درس الصيام في الوسط والاعتدال ضعيفا، ويجعل التذكير به ضرورة.
درس الكرم وعلاج آفة البخل
من دروس الصيام ذات الصلة بالمال وإنفاقه في سبيل الله درس الكرم والجود، وقد دل على هذا الخصلة حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل، أجود بالخير من الريح المرسلة“. رواه البخاري في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة.
ومن الكرم ترغيب الإسلام في تفطير الصائم، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًاكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا” رواه أحمد والترمذي وغيرهما بأسانيد بعضها ضعيف وبعضها حسن وبعضها صحيح، وهذا اللفظ صححه الألباني .
ومن دروس الكرم حث الإسلام على زكاة الفطر في آخر رمضان، وتشريع الفدية والكفارة، وفيهما إطعام المساكين … وسيكون أجر الجود والكرم عظيما إن شاء الله إذا كان بالإنفاق والإحسان إلى من هم في شدة كالذين تضررت مكاسبهم بآثار الوباء في هذه الفترة، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “السَّاعي على الأرْمَلَةِ، والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار”. رواه البخاري في أول كتاب النفقات. وللإنفاق آثار في نفوس المنفقين والمنفق عليهم، وفيه تطهير للنفس من آفات الحرص الشديد على المال، والتي لها تجليات من أبرزها البخل وعدم إنفاق المال ولو في الوجوه الواجب الإنفاق فيها كالنفقة على النفس والأهل والزكاة…ومن لم يكرم من حوله فلن يكرم من هم أبعد.
ختاما من العمليات المصاحبة للتعليم بعد التدريس تقويم المكتسبات بالفروض والامتحانات، ويتميز المتعلمون بحسب درجات تمكنهم من تعلماتهم، وإذا صح هذا القياس فإن نجاح الصائم يكون بقدر ما تعلمه من دروس الصيام، وبقدر ما تغلب عليه من آفات نفسه وعاداته الخاطئة، أما إذا لم يتعلم شيئا جديدا، ولم يترك شيئا من عاداته السيئة، فمثله كمثل المتعلم الذي يمنح الفرصة لإعادة المحاولة في الموسم الموالي إن مد الله في عمره لعله يتدارك… أعاد الله علينا وعليكم شهر رمضان أعواما عديدة، وعلمنا وإياكم من دروسه المفيدة، وعافانا بدروسه من آفات نفوسنا، وجعلنا فيه من الفائزين.