“قرآن برغواطة” والطعن في “الثوابت الوطنية”.. قراءة تحليلية

25 نوفمبر 2025 01:20

هوية بريس – عبد العلي حمداوي الزمزامي

في سياق التحولات الفكرية التي تشهدها المجتمعات العربية عموما ومجتمع مملكتنا الحبيبة على وجه الخصوص، تتجدد بين الحين والآخر بعض الأطروحات التي تستدعي من الذاكرة التاريخية نماذج دينية منحرفة، وتُعيد طرحها في الخطاب الثقافي المعاصر تحت مسميات متعددة، فمرة تسمى “التراث المنسي” أو “القراءات البديلة” أو غير هذه من المسميات التي نستطيع أن نقول ما أنزل الله بها من سلطان.

ومن بين هذه النماذج، يبرز هذه الأيام على الساحة الإعلامية ما يُعرف بـ”قرآن برغواطة”، وهو نص منسوب إلى الحركة البرغواطية التي ظهرت في المغرب خلال القرن الثامن الميلادي، بقيادة صالح بن طريف، الذي ادعى النبوة وابتدع نصوصا دينية خاصة به. هذا النص، الذي لم يصلنا كاملا، وإنما عبر روايات متفرقة في كتب المؤرخين، يثير اليوم جدلا يتجاوز حدود البحث التاريخي، ليصل إلى مساءلة الثوابت الوطنية والدينية، مما يستدعي قراءة نقدية متأنية.

الحركة البرغواطية نشأت في منطقة تامسنا غرب المغرب، في سياق سياسي واجتماعي مضطرب، حيث كانت الدولة الإسلامية في طور التوسع، وكانت بعض القبائل تبحث عن استقلال ديني وسياسي. في هذا السياق، ادعى صالح بن طريف النبوة، ودوّن نصوصا دينية عُرفت لاحقا بـ”قرآن برغواطة”، تضم سورا تحمل أسماء مألوفة مثل “البقرة” و”الفيل” وغيرها من المسميات، لكنها تختلف جذريا عن القرآن الكريم في المضمون والمقاصد. وقد أسس أتباعه إمارة دامت قرابة أربعة قرون، تميزت باستقلالها عن الخلافة العباسية، واتبعت نظاما دينيا خاصا بها، ما جعلها محل رفض قاطع من قبل العلماء المسلمين عبر العصور.

النصوص المنقولة عن “قرآن برغواطة”، كما وردت في كتب ابن خلدون والبكري وغيرهما، تتضمن انحرافات عقدية واضحة، مثل تأليه بعض الأشخاص، وإنكار أركان الإسلام، وتحريف في العبادات، مما يجعلها أقرب إلى نصوص تلفيقية منها إلى نصوص دينية ذات مرجعية. ورغم ذلك، فإن بعض الأوساط الأكاديمية أو الإعلامية في العصر الحديث بدأت تُعيد طرح هذه النصوص، أحيانا بدعوى إعادة قراءة التاريخ، وأحيانا أخرى في سياق تفكيك الخطاب الديني التقليدي، دون أن تُراعي السياق العقدي والسياسي الذي نشأت فيه هذه الحركة، أو طبيعة الانحرافات التي تبنتها.

إعادة طرح “قرآن برغواطة” في سياقات معاصرة، خارج الإطار الأكاديمي الرصين، لا يمكن فصلها عن محاولات التشكيك في الثوابت الدينية التي تُعد جزءا لا يتجزأ من الهوية الوطنية. فالدين الإسلامي، بقرآنه وسنته، يشكل أحد أعمدة الانتماء الوطني في دولة مثل المملكة المغربية الحبيبة، حيث يُعد الإسلام دينا رسميا للدولة، وأمير المؤمنين ضامنا لوحدة العقيدة. ومن هنا، فإن الترويج لنصوص منحرفة أو مشبوهة تحت غطاء “التراث” أو “الاختلاف الثقافي” يُفسر كمساس بمقدسات الأمة، ومحاولة لزعزعة الاستقرار الرمزي الذي تستند إليه الدولة والمجتمع، خاصة إذا تم ذلك دون تفكيك نقدي أو تأطير علمي واضح.

وتزداد خطورة هذا المسار حين ندرك أن الطعن في أحد الثوابت لا يقف عند حد ذاته، بل يُعد مدخلا للطعن في باقي الثوابت. فالثوابت الوطنية، بطبيعتها، مترابطة ومتكاملة، وأي مساس بأحدها يفتح الباب أمام التشكيك في غيرها. فعلى سبيل المثال، فإن الطعن في الدين لا يُعد فقط تشكيكا في العقيدة، بل يتعدى ذلك إلى الطعن في مؤسسة إمارة المؤمنين، التي تستمد مشروعيتها من البيعة الشرعية، ومن كونها الضامن لوحدة المذهب والعقيدة في المغرب. وبالتالي، فإن التشكيك في المرجعية الدينية يُفضي بالضرورة إلى التشكيك في شرعية النظام السياسي ذاته، ويُضعف مناعة الدولة أمام التيارات المتطرفة أو النزعات الانفصالية. وهذا ما يجعل من الترويج لمثل هذه النصوص المنحرفة، أو تقديمها كبدائل محتملة، فعلا ذا أبعاد تتجاوز المجال الثقافي أو الأكاديمي، لتلامس جوهر الاستقرار السياسي والاجتماعي.

إن خطورة هذا الطرح لا تكمن فقط في إعادة إنتاج نصوص منحرفة، بل في توظيفها لتبرير أطروحات سياسية أو أيديولوجية معاصرة، كالدعوة إلى “إسلام أمازيغي” بديل، أو التشكيك في المرجعية الدينية الرسمية، أو حتى المطالبة بعلمنة الهوية الوطنية. هذا النوع من التوظيف يُسهم في خلق التباس معرفي لدى المتلقي، ويفتح الباب أمام تأويلات مغلوطة للتاريخ الديني المغربي، ويُغذي خطابا عدائيا تجاه الإسلام السني المالكي، الذي يُعد أحد ركائز الوحدة الوطنية.

ولا شك أن دراسة الحركات الدينية المنحرفة، كحركة برغواطة، أمر مشروع في إطار البحث التاريخي والنقدي، شريطة أن يتم ذلك بأدوات علمية صارمة، وضمن سياق يوضح الانحرافات العقدية التي تبنتها تلك الحركات، دون أن يتحول هذا البحث إلى أداة للطعن في الثوابت أو لتغذية نزعات انفصالية أو طائفية. فالبحث العلمي الرصين لا يُعادي الثوابت، بل يُسهم في تعزيزها من خلال كشف الانحرافات التاريخية، وتحصين الوعي الجمعي من محاولات التشكيك والهدم.

إن “قرآن برغواطة” ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل يمثل انحرافا عقديا وسياسيا واجهه علماء الأمة منذ قرون. وإعادة طرحه اليوم، دون وعي بسياقه التاريخي، أو توظيفه لأغراض أيديولوجية، يُعد طعنا في الثوابت الوطنية والدينية، وتهديدا لوحدة الأمة. ومن ثم، فإن صون الهوية الوطنية يقتضي الحذر من مثل هذه الطروحات، وتعزيز الوعي النقدي في التعامل مع التراث، دون الوقوع في فخ التقديس أو التبخيس، بل عبر قراءة علمية مسؤولة تفرق بين الدراسة والترويج، وبين الفهم والتوظيف، مع إدراك عميق بأن الثوابت الوطنية ليست كيانات منفصلة، بل منظومة متكاملة، يُفضي المساس بجزء منها إلى تقويض بنيانها بأكمله.

والله الموفق والهادي إلى الصواب.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة