كلام في السياسة
هوية بريس – بلال التليدي
المؤشرات المقلقة التي برزت، بشكل مسترسل ومؤلم، تعيد التذكير بأن الأزمة التي يعيشها المغرب ليست وليدة ضعف في المشاريع، أو تعثر في نجازها، أو عدم قدرة الحكومة على ترجمة رؤية الملك وطموحه.
الأزمة، بكل وضوح، في السياسة، وليست في مكان آخر. وقد بدأت وامتدت في اللحظةّ التي تم فيها قتل السياسة بمعاكسة الإرادة الشعبية.
حراك الحسيمة، الذي لا ندري سبب تأخير التعاطي معه إلى أن صار مستعصيا على الحل، ثم حراك جرادة، وبعده حراكات أخرى اندلعت على خلفيات مطلبية، ثم المقاطعة الشعبية، التي فجرت مشكلة زواج السلطة بالمال، ثم موجة الهجرة السرية غير المسبوقة… هذه المؤشرات المتسارعة، ليست في حقيقة الأمر، سوى ثمرات لانهيار الأمل الذي تم التأسيس لبنيانه عشية إقرار دستور فاتح يوليوز.
البعض، يتصور أن هذا التشخيص يسترجع ألم إزاحة بنكيران، لكن التحليل الموضوعي والمستشرف، بعد ملاحظة ما آل إليه الوضع السياسي، ينتهي إلى أن القضية تجاوزت حدث إزاحة شخص، ففي لحظة إزاحة حكومة عبد الله إبراهيم، توالت الكوارث السياسية على المغرب، بدءا بحالة الاستثناء، ثم الانقلابين الأليمين، ولم يعد السؤال هو حدث إزاحة هذا المناضل الكبير، فقد عاش المغرب بعده أحداثا أكثر إيلاما، ودخل فترة التيه السياسي لمدة طويلة. فرغم حدث المسيرة الخضراء الذي لملم الوضع قليلا، ورغم إطلاق المسلسل الديمقراطي، استمرت الأزمة، وبلغت مرحلة “السكتة القلبية”، ولم ينتعش الوضع حتى تحركت السياسية مع دستور 1996، وبدأ التداول السياسي في شروط تأسيس تجربة التناوب السياسي.
في هذه الفترة، التي دامت أكثر من ثلاثين سنة، لا يمكن أن نحصي حجم المشاريع والوعود الطموحة، والشعارات التي كانت تغازل الشباب، لكن في نهاية المطاف، لم ينفع خيار فصل التنمية عن السياسة، وعادت الدولة إلى التشخيص الصحيح، فمدت يدها للقوى التي أفرزتها الطبيعة، كما فعلت بالضبط عشية الربيع العربي، بذكاء ملكي التقط شروط اللحظة، وصنع الاستثناء المغربي بشراكة مع القوى الديمقراطية.
للأسف اليوم، وبعد كل هذه التطورات، أصبحت إمكانية إعادة الثقة محفوفة بكثير من التوجس، لاسيما وأن ما واكبها من صناعة السياسة، رسخ لدى الجمهور فكرة ذهاب “المعقول”.
بعيدا عن لغة التجريد. “البام” أصبح اليوم جزءا من التاريخ الخطأ، والأحرار، بتركيبته السوسيولوجية، التي تضم رجال الأعمال يفتقدون للتجذر الشعبي، لا يمكن أن يشكل قاعدة اجتماعية يمكن للحكم الاعتماد عليها ، والاتحاد الاشتراكي، ذي الرصيد الوطني الديمقراطي، أصبح بفعل التحكم في قياداته، عبئا على الدولة، لا ينتظر منه في المدى القريب أو المتوسط أي دور تاريخي، ولم يعد – في حقيقة الأمر- صالحا لشيء سوى لترجمة التكتيكيات المطلوبة، في حين، لم يستطع حزب الاستقلال رغم تجدد قيادته، أن يرسم صورة حزب تنأى قياداته عن اللعب وفق شروط الغير. أما العدالة والتنمية، الذي تصدر النتائج لمرتين، تقرض شعبيته رويدا رويدا، بفعل مشاركته في الانزياح الديمقراطي، ومسايرته لمقاربات يختلف مع منطقها وروحها.
التأخر في إصلاح السياسة مكلف، والاستمرار في معاندة منطقها، باجترار المقاربة ذاتها التي ترى الحلول في رفع مؤشرات التنمية، وإطلاق المشاريع الطموحة والانعطاف للمسألة الاجتماعية، لن يأتي بنتيجة يعول عليها في إيقاف النزيف، وربما يستدعي تبرير الانخراط في “ردة” حقوقية، ومس بحرية التعبير.
في المقابل، فإن إصلاح السياسة، لم يعد يشترط فقط التأسيس لمرحلة شبيهة بتجربة التناوب، أو تجربة الشراكة، وإنما صار يتطلب تغييرا جوهريا في رؤية الدولة للسياسة ودورها، بما يعني ذلك التصالح مع النخب، والاستعانة بها في تقوية قدرتها التشخيصية والاستشرافية.