كوريا الجنوبية… قصة نجاح تستحق أن تُروى
هوية بريس – عادل بن حمزة
انطلقت التجربة التنموية في كوريا الجنوبية، والتي توصف بـ”المعجزة الاقتصادية على نهر الهان كانغ” سنة 1962، وكان لافتاً أن تتمكن دولة تفتقد للمقدّرات الطبيعية والبشرية وخارجة من دمار الحرب العالمية الثانية والاحتلال الياباني (1910-1945) والحرب الكورية (1950-1953) التي ستنتهي بتقسيم البلاد، تحقيق تلك المعجزة في أربعة عقود فقط، وتصل مستويات التنمية فيها ﺍﻟﻰ ﻣﺳﺗﻭﻯ ﺍﻟﺩﻭﻝ ﺍﻟﺭﺃﺳﻣﺎﻟﻳﺔ الغربية ﺍﻟﻣﺗﻘﺩّﻣﺔ، وذلك قياساً بالتجارب النهضوية والتنموية الكبرى التي شهدها العالم بين 1783 تاريخ بداية النهضة في بريطانيا و1868 تاريخ دخول اليابان والسويد نادي الدول المتقدّمة. وبين التاريخين تحققت النهضة في كل من فرنسا سنة 1830 وبلجيكا 1832 والولايات المتحدة الأميركية 1843 ثم ألمانيا سنة 1850.
كانت كوريا الجنوبية حين تأسيسها واحدة من أفقر دول العالم، حيث لم يكن دخل الفرد فيها يتجاوز 80 دولاراً في السنة، وكانت تعاني من دمار اقتصادي وفوضى سياسية عارمة. وبعد تقسيم شبه الجزيرة الكورية تدهورت الحالة الاقتصادية أكثر، وبلغت أضرار الحرب الكورية على كوريا الجنوبية ما يقارب 70 مليار دولار، أي ما يعادل 18 مرّة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في تلك الفترة. فالحرب دمّرت ربع البنية التحتية للبلاد و40 في المئة من المساكن و46.9 في المئة من شبكة سكك الحديد و500 كلم من الطرق والقناطر، و80 في المائة من محطات توليد الكهرباء. كما تمّ تدمير 65 في المئة من المصانع، ما أدّى إلى تراجع الإنتاج الصناعي بـ75 في المئة، وإنتاج الأرز بـ 65 في المئة، فأدّى أيضاً إلى تراجع الدخل السنوي للفرد إلى 50 دولاراً سنوياً، ناهيك عن الخسائر البشرية الكبيرة، والتي بلغت 1.3 مليون كوري من بينهم 400 ألف قتيل.
بصفة عامة، كانت البلاد مُدمّرة ويائسة ولا أفق يظهر لها في المستقبل، وتعيش فقط على المساعدات الدولية بخاصة الأميركية، التي بلغت حوالى 17 مليار دولار، وغارقة في اضطرابات اقتصادية وسياسية.
نتيجة لذلك، كان طبيعياً أن تركّز الحكومة الكورية في الفترة من 1953 تاريخ نهاية الحرب الكورية إلى 1962، على إعادة بناء البنية التحتية للبلاد التي دُمّرت بسبب الحرب الكورية، وبناء قوة عسكرية قادرة على ردع أي خطر قادم من كوريا الشمالية التي كانت خاضعة للنفوذ السوفياتي. وهنا كان الدور الأميركي بارزاً، ثم إزالة الإرث الياباني الاقتصادي والثقافي، وإعادة الاعتبار للهوية الكورية وفي صلبها اللغة الكورية التي تمّ تطهيرها من كل المصطلحات اليابانية الدخيلة، حيث تمّ خلق نوع من الوحدة القسرية على اللغة الكورية المعيارية.
يبقى السؤال، هو كيف استطاعت كوريا أن تتجاوز هذا الإرث الكارثي للحرب والاحتلال ودخول البلاد نادي الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى، علماً أنّها تنتمي تقليدياً إلى نمط الانتاج الأسيوي كما عرّفه كارل ماركس؟
هذا التحليل في الواقع لم يفقد إلى اليوم قوته وعمقه، بخاصة عند دراسة العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص في كوريا، وكيف استطاعت هذه العلاقة أن تحقق النهضة، فقد برز دور الدولة بشكل كبير في التجربة الكورية، إذ منذ أول دستور سنة 1948 ومروراً بمختلف التعديلات التي لحقته إلى سنة 1987، نجد أنّه تمّ إقرار الديموقراطية واختيار اقتصاد السوق الحرّة.
فالدستور الكوري لسنة 1987 نص في الفقرة الأولى من المادة 119 على أنّ “اﻟﻨﻈﺎﻡ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻱ ﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻛﻮرﻳﺎ ﻳﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ اﺣﺘﺮاﻡ اﻟﺤﺮّﻳﺔ واﻟﻤﺒﺎدرﺓ اﻟﺨﻼّﻗﺔ ﻟﻠﺸﺮﻛﺎﺕ واﻷﻓﺮاﺩ”. وفي فقرته الثانية يجيز ﻟﻠﺪوﻟﺔ ﺗﻨﻈﻴﻢ اﻟﺸﺆوﻥ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ وﺗﻨﺴﻴﻘﻬﺎ، ﻟﻠﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻤﻮ اﻟﻤﺘﻮازﻥ واﺳﺘﻘﺮاﺭ اﻻﻗﺘﺼﺎﺩ اﻟﻮﻃﻨﻲ، وﻟﻀﻤﺎﻥ اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﻤﻨﺎﺳﺐ ﻟﻠﺪﺧﻞ، وﻟﻤﻨﻊ هيمنة اﻟﺴﻮﻕ وﺳﻮﺀ اﺳﺘﺨﺪاﻡ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، وﺟﻌﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎﺩ دﻳموقراﻃﻴﺎً ﻣﻦ ﺧﻼﻝ اﻻﻧﺴﺠﺎﻡ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، ما سمح للدولة باعتماد التخطيط المركزي من خلال مجموعة من المخططات استهدفت تحقيق جملة من الأهداف التنموية لكل 5 سنوات منذ حكومة (بارك جونغ)، ومن بينها على سبيل المثال، المخطط الخماسي للفترة (1962-1965) الذي استهدف وضع أسس التصنيع في كوريا، وكان تنزيلاً لخطة إعادة هيكلة الاقتصاد الكوري وسياسة إحلال الواردات التي وضعت بداية من سنة 1953، ثم المخطط الخماسي للفترة (1968-1971) وفيه وضعت أسس التصنيع الموجّه للتصدير، فالمخطط الخماسي للفترة (1972-1976) الذي وضع أسس تعويض الصناعات الخفيفة بالصناعات الثقيلة والكيماويات وزيادة مساهمتها في المبادلات الخارجية.
لا يمكن الحديث عن التجربة الاقتصادية لكوريا الجنوبية من دون الحديث عن ظاهرة “الشيبول” (Chaebols) وهي أهم ما يميز التجربة الكورية، إذ أنّ إستحداثها يعود لإرادة الدولة في مطلع الستينات من القرن الماضي لمواكبة أهداف المخطط الخماسي الأول للفترة (1962-1968) الذي استهدف وضع الركائز الأساسية للتصنيع وتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية.
يعرّف البعض “الشيبول” بأنّها مجموعة الشركات المستقلة رسمياً، لكنها تعمل تحت السيطرة الإدارية والمالية لعائلة واحدة، وهو ما يعني أنّ جزءاً من الثروة متكتل في عائلة واحدة، بما يتطابق مع نظرية نمط الانتاج الآسيوي التي تقوم على أنّ المجتمعات الآسيوية قد تمّ استعبادها من طرف طغمة حاكمة مستبدة تستقر في المدن الأساسية، وتستحوذ بشكل مباشر على فائض المجتمعات القروية ذات الاقتصاد المعيشي الذي يحقق اكتفاءها الذاتي. فقد استفادت “الشيبول” من حزمة من الامتيازات التي خصّتها بها الحكومات الكورية المتتالية، ومنها معدلات فائدة صغيرة، بما يخفّف عنها تكلفة الإنتاج، ونتيجة لذلك فإنّ الحكومة كانت تتدخّل في تخصّصات التصنيع لـ”الشيبول” بشكل يجعلها متكاملة وتسهم في تنويع الصادرات الكورية، وهو ما مكّن من رفع الناتج المحلي الخام (PIB) منذ 1966.
وعلى مدى العقود الماضية أضحت “الشيبول” العنوان الأبرز لنجاح التنمية الاقتصادية في كوريا، ويظهر ذلك من خلال حجم مساهمتها في الناتج المحلي الخام، وكذلك من خلال تطور الصناعات الثقيلة والخفيفة في هيكل الصناعة التحويلية في الفترة 1972-1980. فقوة “الشيبول” تظهر من خلال تصنيفها على المستوى الدولي، حيث تعتبر كل من “دايو، وهيونداي وكولد ستار” من بين أكبر 100 شركة صناعية على المستوى الدولي، إضافة إلى عملاق التكنولوجيا “سامسونغ”. ولتحقيق هذه النتائج كانت الحكومة الكورية قد استحدثت مجموعة من المؤسسات لمواكبة خططها وبرامجها التنموية، نذكر منها هيئة ترويج التجارة الكورية الجنوبية (KOTRA) وذلك سنة 1962، معهد كوريا للعلوم والتكنولوجيا سنة 1966، وزارة العلوم والتكنولوجيا سنة 1967، معهد التخطيط الاقتصادي في عهد الرئيس بارك، معهد تدريب الموظفين الحكوميين المركزي (COTI)، معهد التطوير الكوري للإدارة والسياسات الحكومي (KDI School) وأخيراً معهد كوريا للعلوم التقنية (KIST).
لقد شكّل التحالف بين النخبة الاقتصادية ممثلة في “الشيبول” والنخبة العسكرية، جبهة لمواجهة كل دينامية مجتمعية تطالب بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد، وهذا الأخير ارتبط في كوريا الجنوبية بـ”الشيبول”، حيث أنّ المؤسسات الاقتصادية الكبرى توجد إلى اليوم في أغلب ملفات الفساد التي تورّط فيها سياسيون. ويمكن اعتبار “الشيبول” أحد النقاط السلبية في تجربة الانتقال الديموقراطي في كوريا، فتطورها جاء في كنف السلطة، وهي مدينة للمنطق الذي أفرزها، بل إنّ الدولة نفسها أصبحت مرتهنة لـ”الشيبول”. صحيح لم تعد في كوريا مجتمعات قروية تعيش على الكفاف، لكن بنية العلاقات الاجتماعية والتحالفات المرتبطة بالسلطة لم تتغيّر، وهو ما جعل “الشيبول” نقطة سوداء في مسار الإصلاح السياسي في كوريا.
ورغم الآثار المدمّرة للاحتلال الياباني لكوريا، فإنّ هذه الأخيرة استفادت كثيراً من البرامج التي وضعتها اليابان خلال فترة الاحتلال، سواءً في بناء الأسس الأولية للتصنيع، أو بصفة خاصة في تطوير العنصر البشري المؤهل، وذلك من خلال برامج تطوير التعليم التي شكّلت محوراً رئيسياً في السياسات الحكومية الكورية للرئيس “بارك”، وتظهر أهمية التعليم في كوريا من خلال ما يقدّمه من مساهمة في الناتج الداخلي الخام للبلاد.
قد لا تكون التجربة الكورية نموذجاً يمكن استنساخه، لكنها بلا شك تجربة يمكن الاسترشاد بها، بخاصة في البلدان التي كانت قريبة تاريخياً من نمط الإنتاج الآسيوي.