لماذا الرحيل؟ لماذا المغامرة؟ لماذا المقامرة؟؟؟

30 أغسطس 2024 16:00

هوية بريس – محمد بوقنطار

لطالما تساءلت عن ماهية وطبيعة الدوافع والأسباب التي تجعل طفلا يافعا لم يشتد عود ترابه، ولم تختمر بعد سيالة ذهنه وأن تسكن باحات مخه الذي لم يلتئم بمخيخه، يفكر وينشغل حد الجنون بالفرار من وطنه راكبا خطر البحر، أو منحشرًا تحت عجلة شاحنة ضخمة متوجهة إلى سوق أوربية، شاحنة قد تسحق عجلاتها خشبته الصغيرة الأطراف في أي لحظة دون سابق إشعار، أو أن يقطع البحر سابحا مغامرا في عتمة الليل وظلمته الحالكة، فكل شيء بات عنده هيِّنا وقد بات مرتبط الوجدان بهنالك، حيث جنته الموعودة، وقبلته المنضودة المتاع، وحيث اليقين أنه سيعيش حياته المأمولة، وستتذوق جوارحه ما لا عينه رأته، ولا أذنه سمعته، ولا خطر على بال قلبه الصغير احتمال أن يدركه في وطنه الأم؟؟؟

إنها ظاهرة غريبة، وجنوح مقرف لا نقبل بسلوكه إن صدر من الذين سئموا تكاليف الحياة وقد عاشوا الأربعين حولا، فلا أبالك نقبله من فلذات أكباد حديثة الدبيب على مناكب الوطن…

إنها ظاهرة حري بعلماء الدين والسلوك والنفس والاجتماع ورجال الاقتصاد والسياسة الانكباب والعكوف على تشريح تفاصيلها وأسرارها الموبوءة العلن في عجلة فإن الأمر لم يعد يحتمل الإرجاء أو المزيد من التسويف…

نعم قد يكون التهوّر، قد تكون ظاهرة مرضية استحالت إلى ثقافة موهومة الصواب، قد تكون العجلة، قد يكون اليأس، قد يكون الطمع المرضي، قد يكون انبهار المغلوب بثقافة الغالب، قد يكون حبل المواطنة قد ترهل في جوف الآباء فورثوا لأبنائهم هذا المصاب الجلل، قد يكون إيثار الدنيا على الآخرة، قد يكون ثمة خلل في التربية، فلطالما خاف الآباء عن مستقبل الأبناء فأشبعوا آذانهم بوابل من الوصايا والتحذيرات، وصايا تكرس في الجوف مبكرا، أننا في مواجهة غول مفترس اسمه الدنيا وتقلبات أحوالها، قد تكون معروضات الصناعة الأعلامية بوطننا قد جادت صورتها بما يعطي الانطباع المغشوش ويصنعه في قواعد التفكير عند الناشئة…

ربما على طاولة هذه المعطيات المعطوفة عطف مغايرة يمكن على احتمال مرجوح فهم هذه الظاهرة المرضية التي تجعل طفلا يفكر في الرحيل ومغادرة الحضن الساخن للأسرة قبل اشتداد العود وبلوغ الأشد ومن ثم المغامرة والمقامرة بأمانة الروح والجسد…

لقد قاوم الأجداد وجاهدوا بكل غال ونفيس وضحوا وجادوا بالنفس والمال والوالد وما ولد، فكان أن دحروا الصائل الغائر وأخرجوه صاغرا ذليلا، واسأل جبال الأطلس، وجبال الريف وهضاب الشاوية، وأحواش الحوز عن بطولات الأجداد…ثم جاء جيل أحفاد أحفاد الأنجال، آثروا الفرار تحت طائلة ظروف قاهرة لا يزال ضابطها قول الجدات إن القط لا يمكن أن يفر من خيمة العرس إلا…!!!!

ركب المساكين البحر وألقوا بأنفسهم إلى التهلكة فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ما تغيرت أمانيهم ولا نقص من رصيد إصرارهم على لقيا الموت هنالك في أعالي البحار في ضيافة لجة الموج ونهم سمك القرش، فقد فروا من سطوة سياسة بني جلدتهم من الحكومات العلمانية التي أفسد تواليها ومعطوف ولاياتها الزرع والضرع، وهتك العرض، وأحرق الأرض…لقد كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وأنظر إليهم كيف يفرون من حضن الوطن فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وكأنه مشهد من مشاهد اليوم الآخر… مأساة ما بعدها مأساة، والمغنم سراب حسبه الظمآن إلى الكرامة ماء…

سوف نفتقدكم أيها النشء العزيز، ولكن العزاء في ما تحملونه في وجدانكم من أواصر المحبة وذكريات التضحية وصكوك الإيثار التي جمعتكم مع وطنكم الأم رغم كل شيء، ذلك أن من كتبت له النجاة، واستطاع الإقامة بين ظهراني الآخرين سرعان ما يذوب الحقد والغضب في حوجلة السلو والنسيان، فلا يكون إلا مفتخرا بوطنه حفيا بأهله، يعود زائرا مكرما يستقبل بالورود، وكريم الوعود، وحفاوة القعود، حاملا حابلا بخيرات من العملة الأجنبية ذات الوزن الثقيل في ميزان الادخار والاتجار…

فاللهم اجعلها رحلة خير وبركة وعيشة هنية وحياة طيبة وثبات على الدين إن شاء الله تعالى.

معذرة على نغمة المقطع، فإن سطوة المشهد يغني فيها الإبصار ثم الألم عن تماهي الأذن مع هذا التأبين الملحون المقفى الرثاء.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M