مدونة الأسرة.. الكتاني يرد على صديقه السابق عبد الوهاب رفيقي
هوية بريس – الشيخ الحسن الكتاني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فقد اطلعت على ما كتبه صديقنا السابق محمد عبد الوهاب رفيقي، هداه الله وأصلحه، في حسابه الفيسبوكي، بشأن تعديلات مدونة الأسرة، بعد غياب طويل، منذ بداية أحداث غزة، التي لم يكتب فيها حرفا واحدا، لا باستنكار للمجازر التي تحدث فيها، ولا بغير ذلك، وكأنه غير معني بما يحدث هناك، ولا أنه هو صاحب الخطبة الشهيرة التي سارت بها الركبان (عذرا فلسطين).
والحق أن ما كتبه جاء تسويغا لتعديلات لا يقصد منها الرجوع للشرع أصلا، بل المطالبون بها أعداء للشرع، يرفضون أن تكون قوانيننا مستمدة منه أصلا، ويسعون لحذف أي بند يرجع لنص ديني من القانون المغربي.
فما كتبه صديقنا القديم هو ضرب من التلبيس على قوم لا علم لهم بالعلوم الشرعية، فهو أشبه بما كان يفعله أهل الكتاب من تحريف كتاب الله لأهداف دنيوية كما قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة:79].
قال هداه الله وأرشده: “والذي أرى أنه لا بد من الانفتاح على المدارس الأصولية التي يبدو لي رأيها أكثر إقناعا، والتي تذهب إلى أن عموم القرآن ومطلقه لا يمكن تخصيصه أو تقييده إلا بنص مساو له في القوة على مستوى الثبوت، فلا يمكن ومن غير المنطقي إخراج العموم أو المطلق القرآني القطعي في ثبوته بنصوص ظنية كأخبار الآحاد”.
قال أبو محمد:
هو هنا يتحدث وكأنه يقر بقطعية القرآن الكريم، وعهدي به يزعم أن القرآن الكريم لا يصلح لكل زمان ومكان، ومعنى ذلك أن دلالته ليست قطعية عنده، بل ولا هي قطعية عند المسلمين جميعا في كل نصوصه باتفاق العلماء، لأنه ليس كل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بل نصوص كتاب الله منها المحكم القطعي الدلالة، ومنها المتشابه المحتمل المعاني.
وكذلك السنة فهي في الدلالات كالقرآن في ذلك، ولكنها تختلف في قطعية الثبوت.
غير أنه ليس كل حديث آحادي ظني الثبوت، بل الأحاديث الصحيحة التي احتفت بها القرائن وتلقتها الأمة بالقبول ترتقي لتصبح قطعية الثبوت، فضلا عن أن كثيرا مما يزعم الناس كونه آحادا هو في واقع الأمر متواتر له طرق كثيرة.
وعليه فهل دلالة العام ظنية أم قطعية حتى نقول إنها لا تخصص بالنصوص الظنية الثبوت القطعية الدلالة؟
ذهَب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وجمهور العلماء من المتكلمين، وأبو منصور الماتريدي، ومشايخ سمرقند من الحنفية في المختار عندهم والجمهور، إلى أن دلالةَ العام المطلَق ظنِّية، هي محتملة للتخصيص؛ فالحُكم الثابت للعام المطلق ثابت لكل أفراده على سبيل الظن لا اليقين، مستدلِّين على ذلك بأن اليقين والقطع لا يثبُتُ مع وجود احتمال، لا سيما أن معظمَ العمومات في القرآن والسنَّة قد ورد عليها التخصيص، حتى قالوا: ما من عام إلا ويُتخيَّل فيه التخصيص.
مما يعني تأثُّر مفهوم العام المطلق بمؤثِّرين:
أحدهما: ما وُضِع له في أصل اللغة من دلالته الشاملة لجميع أفراده.
والثاني: عُرْف الاستعمال الشرعي؛ إذ ثبَت باستقراء العمومات الواردة في نصوص الشرع أنه غالبًا ما يراد بها الخصوصُ.
ولهذا؛ فالجمهور يرون أن كثرةَ التخصيص له قرينة عامة تحدُّ من قطعيته، فقالوا بظنية دلالته، ناظرين إلى عموم استعماله؛ (لأن هذه القرينةَ العامة تصلح دليلاً ينشأ عنه الاحتمال في كل نص جزئي، وتزول معه القطعية، ولو لم يرِدْ دليلٌ خاص به يخصِّصه فعلاً). [انظر: غاية الوصول في شرح لب الأصول، زكريا بن محمد الأنصاري أبو يحيى (ت926)، (ص69)، وكشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعبد العزيز بن أحمد البخاري (ت 730 هـ)، تحقيق: عبد الله محمود محمد، نشر دار الكتب العلمية (2/36، 39،145)].
وذهب معظم الحنفية كالكرخي والجصاص إلى أن دلالته على جميع أفراده قطعيّة. ومعنى القطع انتفاء الاحتمال الناشئ عن دليل، لا انتفاء الاحتمال مطلقا؛ إذ لا عبرة بالاحتمال الناشئ عن غير دليل، وإنما تكون دلالته عندهم قطعية إذا لم يكن قد خص منه البعض، فإن كان قد خص منه البعض فدلالته على ما تبقى ظنيّة لا قطعية.
وأصحاب هذا المذهب قالوا بأن دلالة العام قطعية، فذهبوا إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهرًا في دلالته على ما بقي بعد التخصيص؛ أي: ظني الدلالة عليه.
ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع أفراده، وإذا خصص صار ظني الدلالة على ما بقي من أفراده بعد التخصيص. [انظر: السرخسي، أصول السرخسي، نشر دار الكتاب العربي (1/،132].
إذن، فصديقنا القديم يختار هنا مذهب الحنفية، لأنه يوافق ما يريده من رد الأحاديث الصحيحة. ولكن لننظر كيف تعامل العلماء مع المثالين اللذين ضربهما لكي يقرر هذه القاعدة.
المثال الأول: الوصية للوارث:
قال: “فقد جاءت نصوص القرآن عامة في مشروعية الوصية للوالدين والأقربين، “كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين”، فالنص القرآني عام في الإرشاد إلى الوصية للوالدين وعموم الأقربين، دون تفريق بين وارث وغير وارث، كما أن قوله تعالى: “من بعد وصية يوصي بها أو دين” مطلق دون تقييد، خصوصا وأن لفظ “وصية” هنا نكرة في سياق الإثبات لتأكيد هذه الإطلاقية …
فهل يمكن أ ن يقيد كل هذا العموم والإطلاق بخبر آحاد ” لا وصية لوارث”، ولو كان هذا الخبر في البخاري ومسلم لكان ظنيا لايمكنه معارضة القرآن ولا تخصيصه ولا تعميمه، فكيف والحال أن هذا الخبر حديث ضعيف بشهادة عدد من المحدثين”. ثم جعل يستدر عواطف الناس بكلام حاصله رد النصوص بمحض الرأي.
ولنبسط كلام العلماء ومنهم الحنفية في هذه المسألة. فنقول:
أولا: إن الحديث الذي أشار إليه حديث صحيح رواه أبو أُمامةَ الباهِليِّ رضِيَ اللهُ عنه، قال: “سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ في خُطبتِه عامَ حجَّةِ الوَداعِ: إنَّ اللهَ قد أعطَى كلَّ ذي حَقٍّ حقَّه؛ فلا وَصيَّةَ لوارِثٍ”. أخرجه أبو داود (2870)، والترمذيُّ (2120)، وابن ماجه (2713)، وأحمد (22294). حسَّنه الإمامُ أحمد، كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (286)، وقال الترمذي: (حسن صحيح). وحسَّنه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (24/439)، وابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (7/263)، وابن حجر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَرَ)) (2/315)، وصحَّحه الذهبيُّ في ((تنقيح التحقيق)) (2/157)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2713).
بل قد أطبق أهل العلم قديماً وحديثاً على تصحيح هذا الحديث، بل قال بعضهم إنه متواتر. وقد ذكرنا من قبل قول الإمام الترمذي عنه: إنه حسن صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 372) عن هذا الحديث: (في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي: حديث حسن). ثم ذكر الحافظ أحاديث أخرى في الباب، ثم قال: (ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في الأم إلى أنه متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: لا وصية لوارث، ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد).
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للإمام الشافعي (ص: 142): (وقد ذهب ابن حزم أيضا إلى أن هذا المتن متواتر فقال في المحلى (9/ 316): (لأن الكواف نقلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا وصية لوارث).
وقال الحافظ ابن عبد البر في “التمهيد” 23/ 442: استفاض عند أهل العلم، وقوله: لا وصية لوارث استفاضة هي أقوى من الإسناد والحمد لله.
وقد ذكره الحافظ السيوطي ضمن الأحاديث في كتابه: “الأزهار المتناثرة” ص 119؛ وكذا الإمام محمد بن جعفر الكتاني في “نظم المتناثرة من الحديث المتواترة” ص 176، ينظر: “نصب الراية” للحافظ لزيلعي 4/ 403.
والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل (1655) (6/ 95). وقال بعد أن ذكر روايات الحديث، وتكلم عنها باستفاضة: (وخلاصة القول إن الحديث صحيح لا شك فيه، بل هو متواتر، كما جزم بذلك السيوطي وغيره من المتأخرين).
ثانيا: أجمع العلماء على هذا الحكم وأنه لا وصية لوارث، ومنهم الحنفية، فلم يلتفتوا لهذه القاعدة التي ذكرها صديقنا القديم، ولا رفعوا بها رأسا، لكون هذا الحديث مع الإجماع يصل للقطع عندهم. وقد نقَلَ الإجماعَ على ذلك: الإمامُ مالكٌ، قال ابنُ عبد البَرِّ: (قال مالكٌ: السُّنةُ التي لا اختلافَ فيها عندَنا: «أنها لا تجوزُ وَصيَّةٌ لوارثٍ»، وهذا كما قال مالكٌ رحِمَه اللهُ، وهي سُنَّةٌ مُجتمَعٌ عليها، لم يَختلِفِ العُلماءُ فيها إذا لم يُجِزْها الورثةُ، وهذا كما قال مالك وهي سنة مجمع عليها، لم يختلف العلماء فيها إذا لم يجزها الورثة، فإنْ أجازها الورثة فقد اختلف في ذلك؛ فذهب جمهور الفقهاء المتقدمين إلى أنها جائزة للوارث إذا أجازها له الورثة بعد موت الموصي، وذهب داود بن علي، وأبو إبراهيم المزني، وطائفة إلى أنها لا تجوز، وإن أجازها الورثة على عموم ظاهر السنة في ذلك).). ((التمهيد)) (24/438).
الإمام الشافعي رحمه الله، فقد قال في الأم: (4/ 27): (وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن لا وصية لوارث، مما لا أعرف فيه عن أحد خلافاً).
والحافظ ابنُ المنذِرِ، فقد قال رحمه الله: (أجمَعَ كلُّ مَن نَحفَظُ عنه مِن عُلماءِ الأمصارِ؛ مِن أهلِ المدينةِ، وأهلِ مكَّةَ، وأهلِ الكوفةِ، والبصرةِ، وأهلِ الشامِ، ومِصرَ، وسائرِ العُلماء مِن أهلِ الحديثِ، وأهلِ الرأْيِ؛ على أنْ لا وَصيَّةَ لوارثٍ إلَّا أنْ يُجِيزَ ذلك الورَثةُ). ((الأوسط)) (8/22، 93).
وابنُ رُشدٍ الحفيد، فقد قال رحمه الله: (أمَّا الموصَى له فإنَّهم اتَّفَقوا على أنَّ الوصِيَّةَ لا تَجوزُ لوارثٍ… وأجْمَعوا -كما قُلنا- أنَّها لا تَجوزُ لوارثٍ إذا لم يُجِزْها الورَثةُ). ((بداية المجتهد)) (4/119).
والموفق ابنُ قُدامةَ، قال رحمه الله: (إذا وصَّى لوارِثِه بوَصِيَّةٍ فلمْ يُجِزْها سائِرُ الوَرَثةِ، لم تَصحَّ بغيرِ خِلافٍ بيْنَ العُلماءِ). ((المغني)) (6/141).
وشيخ الإسلام ابنُ تَيميَّةَ. قال رحمه الله: (الوَصيَّةُ للوارِثِ لا تَلزَمُ بدونِ إجازةِ الورَثةِ باتِّفاقِ المسلمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (35/424). وقال: (لو أَوصى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزائدٍ على الثلُثِ، فأجاز الورثةُ الوَصيَّةَ بعدَ مَوتِ الموصِي؛ صحَّت الإجازةُ بلا نِزاعٍ). ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (4/117).
فتبين من هذا سقوط هذه المسألة من أساسها وأنها قول مستحدث لا ينبني أصلا على القاعدة التي حاول الانتصار لها، وهي في نفسها ضعيفة خالفها جماهير أهل العلم.
ثالثًا: لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منَعَ مِن عطيَّةِ الإنسانِ بَعضَ ولَدِه، وتَفضيلِ بَعضِهم على بَعضٍ، في حالِ الصِّحَّةِ، وقُوَّةِ المِلكِ، وإمكانِ تَلافي العَدلِ بيْنَهم بإعطاءِ الذي لم يُعْطِه فيما بعْدَ ذلك؛ لِما فيه مِن إيقاعِ العَداوةِ والحَسَدِ بيْنهم؛ ففي حال مَوتِه أو مَرَضِه، وضَعفِ مِلكِه، وتعَلُّقِ الحُقوقِ به، وتعَذُّرِ تَلافي العَدلِ بيْنَهم؛ أَوْلى وأَحرى. كما في ((المغني)) لابن قُدامة (6/141).