من تجربة د. محمد طلال الحلو إلى مسؤولية الشباب الأكاديمي.. نحو جيل رسالي من الدعاة المثقفين

من تجربة د. محمد طلال الحلو إلى مسؤولية الشباب الأكاديمي.. نحو جيل رسالي من الدعاة المثقفين
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
في إحدى الحوارات الفكرية التي بثتها قناة مغربية ناطقة بالفرنسية، دار نقاش فكري مكثف بين د. محمد طلال الحلو، دكتوراه في الاقتصاد، وخبير في المالية الإسلامية، وبين الناشط الحقوقي الأمازيغي ذ. أحمد عصيد، حول قضايا التغيير الاجتماعي، وحدود الأصالة والمعاصرة، وتحديد المرجعية الفكرية في المجتمع المغربي، وموقع الإسلام في المجال العمومي. وقد تمكن الدكتور الحلو من الدفاع عن القيم الإسلامية بروح هادئة، وتفنيد شبهات العلمانيين بمنطق علمي، وتوازن معرفي، رغم صعوبة الموقف وطبيعة المناظرة التي تجري في حلبة إعلامية تميل غالبا إلى هيمنة الخطاب اللائكي أو الحداثي المتفلت من المرجعية الإسلامية.
لقد لفت أداء الدكتور محمد طلال الحلو أنظار عدد كبير من المتابعين، حتى غدت مشاركته موضوع تداول واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في الأوساط المحافظة والمتدينة. ولم يكن ذلك بوصفه فقيها أو عالما شرعيا متخصصا، بل باعتباره نموذجا لفئة من الشباب المتدين المثقف، الذي يجمع بين تكوين أكاديمي رفيع في مجال علمي محض، واطلاع جيد على الأسس الدينية والشرعية، إلى جانب قدرة ملحوظة على التواصل مع الجمهور المعاصر، بلغته وأسئلته وتحدياته.
وتكمن أهمية هذا النموذج في كونه يعيد طرح سؤال جوهري: من هو الداعية الذي نحتاج إليه اليوم لمواجهة خطاب التغريب، وتفكيك مقولات الحداثة والعلمانية، والدعوات المتكررة للانسلاخ عن الهوية الإسلامية؟
فمن الواضح أن ذلك الداعية أو الواعظ الذي يكرر خطابا تقليديا محفوظا لم يعد كافيا، ولا ذاك المتشرع الغارق في المعارك الكلامية التاريخية لم يعد مطلوبا، ولا المتعصب لمذهبه الفقهي الذي يرى أم المعارك لا تتجلى إلا في نصرة مذهبه على حساب المشترك الإسلامي الجامع وتحديات العصر.
إن الحاجة اليوم ماسة إلى داعية رسالي من طراز خاص؛ داعية يجمع بين العلم والتبصر، والوعي والسداد، وتلك صورة لاحت بوضوح في اللقاء المتميز الذي جمع بين الدكتور محمد طلال الحلو والأستاذ أحمد عصيد.
1-من هو الداعية الذي نتحدث عنه؟
بداية، لا بد من التمييز الواضح بين العالِم الشرعي والداعية الرسالي. فالعالم هو المتخصص في علوم الشريعة، الذي نذر نفسه للتأصيل العلمي، والنظر في دقائق الفقه والتفسير والحديث، وتدريس هذه العلوم، والخوض في الفقه المقارن، والترجيح بين أقوال العلماء، والاجتهاد في نوازل العصر. ولهذا العالم دوره الجليل ومكانته الرفيعة، ولا غنى للأمة عنه في أي زمان.
أما الداعية الرسالي الذي نتحدث عنه ونتطلع إلى صناعته في هذا الجيل، فهو المثقف المسلم المتدين، الذي يمتلك تكوينا أكاديميا متينا في أحد فروع المعرفة كالطب، أو الهندسة، أو الاقتصاد، أو الفلسفة، أو التاريخ، أو اللسانيات أو القانون أو السياسة… ويتمتع بقدرة عالية على الحوار والجدل، وتحليل الواقع وتفكيك عناصره بلغة معاصرة، منفتحة ومنهجية. ويضاف إلى ذلك رصيد معتبر من المعرفة الشرعية المتوسطة، يمكنه من مخاطبة الناس بلغة الإسلام وأحكامه، والدفاع عن المرجعية الإسلامية في وجه الهجمات الفكرية المعاصرة.
هذا الداعية لا يعدّ بديلا عن العالـم، لكنه يـشكـل الواجهة المجتمعية للفكرة الإسلامية في وسطه المهني والأكاديمي.
إنه النموذج الذي يجمع بين انتماء ديني راسخ، وثقافة عامة واسعة، وقدرة على التعبير والإقناع، وحضور واثق في الفضاء العمومي، بما يكسبه مصداقية وتأثيرا.
2-لماذا هذا النموذج ضروري اليوم؟
نحن نعيش في زمن تتعدد فيه المرجعيات، وتتقاطع فيه القيم، وتنتشر فيه فلسفات الإلحاد، والنسبية المطلقة، وإنكار الحقيقة، تحت شعارات الحداثة وما بعدها. وفي ظل هذا الواقع المتغير، لم تعد المساجد وحدها ساحة الدعوة، بل أصبحت الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات العلمية والثقافية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ساحات حقيقية للمعارك الفكرية والقيمية.
لقد غدت الحاجة اليوم أكثر إلحاحا إلى شخصيات دعوية متميزة، حاضرة في فضاءاتها الطبيعية، تحمل خطابا دينيا ناضجا، مباشرا حينا وغير مباشر حينا آخر، لكنه مؤثر وعميق، يستوعب الأسئلة المعاصرة، ويواجه التحديات بثقة ورؤية.
نحن لا نواجه فقط خصوما أيديولوجيين يهاجمون الإسلام علنا، بل نواجه أيضا موجات من التشويش المفاهيمي، وتفريغ المصطلحات الإسلامية من مضمونها، وتسطيح القضايا الدينية في أذهان الأجيال الصاعدة. وهذا ما يستدعي نماذج دعوية تملك الكفاءة المعرفية والمهارة التواصلية، لتعيد الثقة في الإسلام كمرجعية شاملة، ولتخاطب العقول بلغة العصر دون أن تفقد جذورها. وبهذا فقط، يمكن للخطاب الدعوي أن يستعيد مكانته، ويؤثر في مسارات التحول داخل المجتمعات المسلمة، لا أن يظل أسيرا لأساليب تقليدية لا تُجدي في زمن التحولات الكبرى.
3-سمات الداعية المثقف الرسالي
استنادًا إلى ما سبق، يمكن تلخيص أبرز السمات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية المثقف الرسالي في النقاط الآتية:
_ الاعتزاز بالهوية الإسلامية: يحمل دينه بكل فخر، ويقدمه بوصفه رسالة إنسانية عالمية، دون اعتذارية أو خجل أمام الآخر.
_ تكوين علمي أكاديمي راسخ: يتميز بتمكنه في تخصصه، ما يكسبه احتراما في مجاله، ويمنحه مصداقية داخل محيطه المهني والثقافي.
_ ثقافة شرعية متوسطة: تمكنه من فهم مرجعية الأمة، والرد على الشبهات، والرجوع إلى العلماء الثقات فيما يستشكل عليه، ولا يتجاسر على مقام العلماء أو الفتوى.
_ وعي دقيق بالواقع: لا يعيش في عزلة نظرية، بل يفهم تحولات المجتمع، ويعي أسئلة الإنسان المعاصر وتحدياته المعرفية والقيمية.
_ قدرة على الحوار بلغة العصر: يجمع بين الوضوح، والمنطق، والهدوء، والمرونة، ما يجعله قادرا على التأثير والإقناع في زمن التنوع والاختلاف.
4-مسؤولية الشباب الأكاديمي
لم يعد من المقبول أن تبقى صورة “الدعوة” محصورة في أشخاص بعينهم أو أنماط تقليدية بعيدة عن روح العصر. فكل شاب متدين ومثقف، قادر على أن يكون داعية في مجاله؛ يبلغ الدين، ويصون القيم، ويوصل المعنى القرآني بلغة يفهمها محيطه. لم تعد الدعوة حكرا على المتخصصين في العلوم الشرعية، بل أصبحت واجبا مشتركا، تتنوع أساليبه بتنوع التكوينات والأدوار.
ومن هنا، تبرز مسؤولية الشباب المتدين من ذوي التكوين الأكاديمي في المبادرة إلى الجمع بين تخصصهم المهني، وقدر كاف من التكوين الديني، عبر القراءة الجادة، وحضور الدورات، والمشاركة في الحلقات الحوارية، ومتابعة العلماء الربانيين، والانخراط في مشاريع فكرية ومجتمعية هادفة.
وما المانع أن نجد مهندسا يتقن فلسفة الدين، أو طبيبا ملما بنظريات الأخلاق الإسلامية، أو أستاذا جامعيا في الفيزياء يوظف القرآن المشهود في الآفاق وفي الأنفس؟ إن هذا التكامل بين التخصص العلمي والتكوين الشرعي هو ما يصوغ الشخصية الإسلامية المتوازنة، ويعيد إنتاج النماذج المشرقة التي عرفها تاريخنا، حيث كان العالم الرباني يجمع بين العلم الشرعي والطب والرياضيات والفلك والفلسفة وغيرها من العلوم.
وختاما، إن المناظرة التي برز فيها د. محمد طلال الحلو لم تكن مجرد لحظة إعلامية، بل كانت درسا بليغا في ملامح الداعية المطلوب، الذي نحتاج إليه بشدة في زمن التيه والانبهار. ولم يعد من المقبول أن يظل المشهد الدعوي فقط على عاتق فئة من الوعاظ كما عهدهم المجتمع، بينما تترك الساحة الفكرية فارغة أمام دعاة العبث والعدمية.



