من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (20)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
لماذا قال في سورة الأحقاف طريق مستقيم ولم يقل صراط مستقيم؟
الجواب:
لأن معنى الطريق مقصود في تلك الآية وهي قوله تعالى:{ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)}
لأن أولئك النفر من الجن لما رجعوا إلى قومهم داعين أرادوا أن يطمئنوهم ويبعثوهم على الإيمان فقالوا لهم : لا تخافوا فهذا الطريق الذي ندعوكم إليه قد طرق ممن تعرفونه من الأنبياء كموسى عليه الصلاة والسلام وليس بدعا من الطرق.
فمعنى الطرق مراد مقصود تفيده كلمة طريق ولا تفيده كلمة صراط.[1]
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
تساؤلات تعلقت بهذه الآية:
لماذا جاء التكرار هنا؟ لماذا لم يقل الله عزوجل (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم) لأن الصراط المستقيم هو نفسه صراط الذين أنعم الله عليهم؟
الجواب على ذلك : لأمرين اثنين:
الأول : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله.
أول قضية يتناولها القرآن هي قضية الهداية وبالتالي فأول ما ينبغي أن يدركه قارئ هذا الكتاب هو صفة هذه الهداية وصفة هذا المنهج الرباني بذاته لأن الإسلام مبني على الدليل والبرهان والقناعة والإيمان، ومن هنا تتبادر إلى أذهاننا قاعدة قرآنية إسلامية فريدة من نوعها: إذا كنت مدعيا فالدليل وإذا كنت ناقلا فالصحة.
فعلى المسلم أن يبني دينه سواء كان عقيدة أو عبادة أو فقها أو معاملة على القناعة والدليل والبرهان.
لنتأمل قوله تعالى{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} التي جاءت بعد إدعاء اليهود والنصارى{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} فالله عزوجل يعلم بطلان إدعاءكم الذي لا يحتاج إلى برهان ولا إلى استدلال، بدليل قوله تعالى {تلك أمانيهم} ولكن القرآن يثبت منهجا فهذا تنزل من القرآن حتى يعلمنا منهج الإحتجاج والمناظرة، ومواجهة الحجة بالحجة والفكر بالفكر فقال{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}
وكذلك الأمر هنا الله عزوجل قال {اهدنا الصراط المستقيم}
يا رب اهدنا ووفقنا إلى منهجك القويم على قناعة ودليل.
ومن هنا تميز منهج الإسلام على غيره ولم يكن كمنهج الجاهلية في اقتفاء أثر الأسلاف دون دليل وبينة {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}
وهذا الخطاب ينبغي أن يستجيب له أساسا من ترعرع ونبت في بيئة مسلمة من الذين ولدوا في بلاد الإسلام ولكنه مع الأسف لا يعرف من دينه إلا أنه ولد مسلما، رأى أباه يصلي فهو يصلي مثله، ورأى بعض الشعائر الظاهرة فهو يقوم بها ويعملها ولكن دون أن يسأل عن حقيقة ذلك ودليله وحكمته، ودون أن يعلم ذلك ، وبالتالي يكون الحبل الذي يصله بدينه رفيعا ينقطع بأدنى نسيم أو ريح.
ولذلك جاء هنا إفراد الصراط ووصفه ونعته بكونه مستقيما.
الثاني: ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي .
من الأساليب والقواعد المقررة في هذا الكتاب العظيم : التفصيل بعد الإجمال.
نحو قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً} إلى قوله: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.
وعكسه كقوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ} أعيد ذكر العشرة لرفع توهم أن الواو فى: وَسَبْعَةٍ بمعنى أو، فتكون الثلاثة داخلة فيها كما فى قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثم قال:
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فإن من جملتها اليومين المذكورين أولا وليست أربعة غيرهما.
يعني أن هذا الصراط ينبغي أن ندركه بالكلية والإجمال ، وانخرام هذه الكلية يؤدي إلى انخرام الإيمان وهذا ماوقع لليهود لما انحرفوا عن هذه الكلية، وشتتوا أنظارهم إلى مشارب الهوى والشهوة والأنانية، قال الله عنهم{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} فهم يؤمنون ببعض الكتاب ولكن ليس هو الإيمان المطلوب لأنهم تجاوزوا هذه الحلقة المهمة من حلقات الإيمان ألا وهو الكلية لخبث في أنفسهم ولسوء تقديرهم لمصالحهم.
لذلك ينبغي للمسلم أن يؤمن بهذا الدين كلية أولا وكلا ثانيا لأن الكلية ينصب النظر فيها على المجموع دون النظر إلى التفاصيل والكل ينظر فيه إلى التفاصيل، ولا يمكن أن يكون إيمان بالكل إلى بعد الإيمان بالكلية.
وبعد هذه الكلية يأتي التفصيل {صراط الذين أنعمت عليهم}
ومن واقعية القرآن وتنزله إلى أفهامنا وإدراكاتنا أنه لا يقف عند المعنى المحض بل لابد من مزجه بالحس حتى يدركه أدنى الناس فهما وإدراكا.
فهذا الصراط المستقيم رغم أنه الحق الذي لا مرية فيه ولا شك يعتريه فلابد أن يكون هناك شيء محسوس، وعلامات محسوسة ترغب من كان خارجه ليسلكه وتثبت من كان داخله ليستمر فيه.
كما جاء في آخر سورة الصف { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
بعد نداء الله تعالى لعباده المؤمنين وترغيبهم في جناته ونعيمه وما ستقر به أنفسهم، إلا أنها مصالح أخروية غيبية غير محسوسة، ثم بعدها بسرعة رغبهم في مصالحهم اللحظية المحسوسة رغم أنه يخاطب أهل الإيمان والتقوى {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} وكذلك الأمر هنا.
هذا المسلم الذي طلب هداية الله عزوجل وتوفيقه إلى طريقه المستقيم لابد له من معالم وقدوات على جنبات ذلك السبيل ليهتدي بدلها ويستفيد من تجربتها وخبرتها، حتى يطمئن قلبه إلى مآلات هذا الطريق فيثبت عليه.
كما روى لنا خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[2]
ولهذا جاء ذكر صراط الذين أنعم الله عليهم بعد ذكر الصراط المستقيم.
معنى آخر..
قال بعض المفسرين: وتكرار الصراط اشارة الى ان الصراط الحقيقى صراطان من العبد الى الرب ومن الرب الى العبد فالذى من العبد الى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطع به الرواحل ونادى منادى العزة لاهل العزة الطلب رد والسبيل سد وقاطع الطريق يقطع على هذا الفريق { لاقعدن لهم صراطك المستقيم } الآية والذى من الرب الى العبد طريق آمن وبالامان كائن قد سلم فيه القوافل وبالنعم محفوف المنازل يسير فيه سيراته ويقاد بالدلائل قادته { مع الذين انعم الله عليهم من النبيين } الآية اى انعم الله على اسرارهم بانوار العناية وعلى ارواحهم باسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم فى قمع الهوى وقهر الطبع وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفى مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاية .[3]
[1] – أنظر التفسير القيم (ص: 111) / التفسير الوسيط (9/936)
[2] – صحيح البخاري (4/201/ 3612)
[3] – أنظر إجابة هذا التساؤل في المراجع الآتية: [ التحرير والتنوير (1/189) / الدر المصون (1/74) / تفسير الطبري (1/179) / تفسير روح البيان لإسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي (1/13) دار إحياء التراث العربى / في ظلال القرآن (1/26) / حدائق الروح (1/78) / الأساس في التفسير (1/41) / حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي – عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي لأحمد بن محمد بن عمر شهاب الدين الخفاجي المصري الحنفي (1/133) دار صادر ـ بيروت تفسير جزء عم لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) (ص:23) (إعداد وتخريج: فهد بن ناصر السليمان دار الثريا للنشر والتوزيع، الرياض الطبعة: الثانية، 1423 هـ – 2002 م / الإتقان في علوم القرآن لعبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) (2/208) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الهيئة المصرية العامة للكتاب الطبعة: 1394هـ/ 1974 م ]