من “تسديد التبليغ” إلى “تحييد التبليغ” (نصيحة من خطيب مغمور إلى من يهمه الأمر)

هوية بريس – (خطيب مغربي)
استبشرنا خيرا لما طرحت الوزارة خطة “تسديد التبليغ”، وقلنا: إن الوزارة اكتشفت أخيرا الهدف الأساسي من خطبة الجمعة، ألا وهو تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس، وأدركت بِأَخَرَة أن المنابر ليست مجرد وسائل للتذكير بالمناسبات الوطنية، وأرادت أن تعالج البَوْنَ الشاسع بين دين الإسلام وتَدَيُّن المسلمين في المجتمع المغربي، وأن تعيد في نفوس المغاربة وَوَعْيِهِم اللُّحْمَة بين الإيمان والعمل الصالح، وبين العبادات وبين ثمراتها ومقاصدها، ليظفروا بالحياة الطيبة في الدنيا، وبالسعادة الأبدية في الآخرة… فقلنا: الحمد لله! التأخر في الوصول خير من عدم الوصول.
ولكن ما يجب أن تعلمه الوزارة هو أن هذا الاكتشاف الذي اكتشفته هو عَيْنُ ما كان يعالجه كل خطيب مسؤول يحمل هَمَّ الإصلاح والدعوة إلى الله. وإلا فماذا كان يصنع الخطيب طيلة سنوات خَلَت؟! وعن أي شيء كان يحدث الناس إذا لم يحدثهم عن أركان الإسلام الخمسة وعن مقاصدها وثمراتها؟! وإلى أي شيء كان يدعوهم إذا لم يدعهم إلى الإيمان والعمل الصالح؟!
ومع ذلك فإن هذا لا يعني بحال أننا معاشر الخطباء مستغنون عن التوجيه والتأطير، فلذلك نشكر الوزارة على هذه الخطوة، ونساندها في هذه الخطة، نظرا لما تهدف إليه من أهداف سامية؛ لكننا نلفت انتباهها إلى أمر خطير لعلها لم تنتبه إليه، يضرب الخطة في مقتل، ويحكم عليها بالفشل، ألا وهو: توحيد الخطبة، والمنع من التصرف فيها بالزيادة أو النقص، أو الشرح، مما يُفضي إلى نقيض ما قصدته من “تسديد التبليغ”؛ ويحيله إلى “تحييد التبليغ”؛ ولهذا كنا قد تَنَفَّسْنَا الصعداء حين أصدرت الوزارة بيانا تعلن فيه أن الخطبة الموحدة اختيارية وليست إجبارية، ولكن سرعان ما تَبَيَّنَ أن هذا البيانَ مُجَرَّدُ خدعة تكتيكية من أجل التوصل إلى توحيد الخطبة وجعلها إجبارية، وذلك لأن الوزارة بدأت ترسل من يسجل أسماء الخطباء الذين لا يلتزمون بالخطبة الموحدة، وتظهر سخطها وغضبها عليهم، وتستبعدهم من أنشطتها، بل تَجَاوَزَ الوزير الحد ليصفهم بالمرض مع أن فيهم دكاترة وعلماء أجلاء، ومنهم رؤساء وأعضاء في المجالس العلمية، بل إن منهم أعضاء في المجلس العلمي الأعلى، وتساءل الوزير عن سبب عدم التزامهم بالخطبة الموحدة، واعتبر ذلك من الأعراض التي اعتمد عليهم في تشخيص المرض المزعوم… فتبين بما لا مجال للشك معه أن الوزارة تمارس على الخطباء إجبارا في صورة التخيير.
وللإجابة عن تساؤل الوزير أقول: هناك عدة أسباب جعلت بعض الخطباء لا يلتزمون بالخطبة الموحدة مع كونهم لا يعارضون الأهداف المعلنة لخطة “تسديد التبليغ” منها:
1. عدم مناسبة المواضيع لأوقات اختيارها، فالزكاة في جمادى، والصيام في رجب، والحج في شعبان!!! ومن الطرائف في هذا المقام أن خطيبا قال للناس وهو على المنبر يقرأ عليهم مقاصد الصيام: “مُحَااالْ وَاشْ غَادِي تْعقْلُو عَلَى هَادْشِي” يقصد: نظرا لطول الفاصل بين الخطبة ومناسبتها.
2. عدم مناسبة بعض المواضيع لأحوال الناس في بعض الأماكن، فبعض الجهات يعيش أهلها فقرا وحاجة، والخطيب يُرَغِّبُهم في إخراج الزكاة وهم في الحقيقة من مصارف الزكاة، يحتاجون لمن يحدثهم عن الصبر والاحتساب، وعدم الحقد على الأغنياء الذين منعوهم زكاة أموالهم. وفي هذا السياق يقول أحد الخطباء: ماذا لو كان هناك قحط في بعض المناطق دون بعض؟ كيف يُعقل توحيد الخطاب والمقال مع تباين الظروف والأحوال؟!
3. عدم مراعاة مستويات الناس المختلفة مما يستدعي مخاطبتهم بالعامية أحيانا لتبليغ الرسالة إليهم، بينما الوزارة تلزم الخطباء بالقراءة الحرفية، ومن الطرائف في هذا الباب أن المراقبين جمعوا الخطباء ليشرحوا لهم خطة تسديد التبليغ، فاضطروا في بعض المناطق أن يشرحوا لهم الخطة بالدارجة، في الوقت الذي يمنعونهم من شرح الخطبة للناس بالدارجة!!! ومن الوقائع التي عايشتها بنفسي أن خطيبا جاء إلى منطقة قروية اعتاد الناس فيها من خطيبهم أن يشرح لهم بالدارجة، فألقى عليهم الخطيب الجديدُ الخطبة كما “أُنْزِلَتْ”، وطبق التعليمات بحذافيرها من غير زيادة ولا نقصان، لينال الحظوة والرضوان، لكن الناس لم يفهموا عنه شيئا، فاستشاطوا غضبا، وثارت ثائرتهم، وخرجوا من الجمعة يتسخطون ويتذمرون… وخطيب آخر يقول: ألقيت الخطبة كما هي، فخرج الناس يسبونني ويطعنون في مصداقيتي.
4. ضَعْفُ تَفَاعُل الناس مع الخطيب الذي يقرأ من الورقة، وذلك لأن الورقة تعتبر حاجزا يمنع الخطيب من النظر المستمر إلى الناس، مما يُضعف تواصله معهم. فليس الخِطَابُ مِمَّن يَنْظُرُ إلى الناس نظرا مستمرا في نَفْسِ قُوَّةِ خِطَاب من يلقي إليهم بنظرات متقطعة، أو ربما ينغمس في الورقة كليا، أو لا يكاد يرفع رأسه إلا خِلْسَة.
5. ضَعْفُ ثِقَةِ الناس في كل ما يأتي من جهة الحكومة، وهذه حقيقة مُرَّة ينبغي أن تدركها الجهات المعنية، وأن لا تتعامل معها بتجاهل وعنهجية. وملخصها أن عوام الناس مهما ضَعُفَ تَدَيُّنُهُم فإنهم يرون البون الشاسع بين دين الإسلام وتَدَيُّن الحكومة بهذا الدين، تماما كما لاحظت الوزارة الفرق بين دين المغاربة (الإسلام) وتدينهم. فكيف تكون لهذه الحكومة مصداقية عند الناس وهم يرونها تناقض المعلوم من الدين بالضرورة؟! فهم يلاحظون أن حكومتهم تقر الشرك والخرافة، وتطلق العنان للسحرة والمشعوذين، وترخص العُرْيَ والخمور والقمار والربا، ووزير عدلها يُشَرْعِنُ العلاقات الرضائية خارج إطار الزوجية (الفاحشة)، ويسعى إلى نقض ما تبقى من أحكام الإرث، ومن شريعة الإسلام في مدونة الأسرة… فكيف يكون لهذه الحكومة مصداقية عند عوام الناس؟!
6. ضَعْفُ ثِقَةِ الناس في كل ما يأتي من وزارة الأوقاف، وهذا السبب أخص من الذي قبله، فوزارة الأوقاف أوقفت عددا من الخطباء الذين يتمتعون بمصداقية كبيرة عند الناس، وبالأخص حين يكون سبب التوقيف هو استنكار الخطيب لما يقع في مهرجان موازين من المنكرات، وكأن هذا المهرجان ثابت من ثوابت الأمة المغربية التي يحرم المس بها. فالخطبة مهما كانت قَيِّمَةً وَمُفِيدَةً في مضمونها فإن كثيرا من الناس بمجرد أن يلاحظوا أن الخطيب يقرأ من الأوراق ينصرفون عنه بقلوبهم، ولا ينتفعون بشيء مما يقول.
7. ملاحظة الخطباء أن الالتزام بالخطبة الموحدة بحذافيرها يتنافى مع روح خطة تسديد التبليغ، نظرا للأسباب التي سبق بيان بعضها، فهم يرون أن مراعاة مقاصد الخطة أولى من التعامل مع الخُطْبَةِ بِحَرْفِيَّة، وجمود كجمود الظاهرية. خاصة إذا كان هذا الجمود يتناقض مع ما نص عليه كتاب “خطة تسديد التبليغ”، الذي أصدره المجلس العلمي الأعلى لشرح الخطة وأهدافها.
• ومن ذلك قول مؤلف الكتاب في سياق تعريف التبليغ(ص32): “هو كما تذكر معاجم اللغة يفيد معنى الإيصال والانتهاء الى أقصى المقصد، أي: وصول الأمر الى غايته ومنتهاه، واستيفاء كل اغراضه ومقاصده”.
فإذا كان هذا هو التبليغ فكيف يمكن تحققه إذا كان الناس لا يَصِلُهُم شيء مما يُقال لهم؟!
• ومن ذلك قوله (ص34): “…ذلك أن التبليغ مشروط بوصول البلاغ الى المبلغين كاملا غير منقوص”.
حقق التبليغ إذا لم يتحقق شرطه؟!
• ومن ذلك قوله تحت عنوان : “تجاوز عوائق التبليغ “وفي سياق الكلام عما يجب استحضاره في التبليغ(ص55): “رابعا: تبسيط الكلام في الدين حتى يكون الفهم في متناول الجميع.”.
فما العمل إذا كانت الخطبة الموحدة ليست في متناول الجميع، بل وفي بعض الجهات: ليست في متناول أحد؟!
• وقوله (ص55): “خامسا: الحديث إلى الناس في أحوالهم الحاضرة، بلغتهم المعهودة، وبالمصطلح الذي يفهمونه، وذلك بقصد اسعافهم على معالجه مشاكلهم”.
فكيف نصنع إذا كانت الخطبة تخاطب الناس بمصطلحات لا يفهمونها، ولا تراعي أحوالهم الحاضرة، فتحدثهم عن الصيام قبل حلول رمضان بشهرين، وتحدثهم عن الحج قبل الموسم بأربعة أشهر؟!
لهذه الأسباب وغيرها أدعو وزارة الأوقاف إلى مراجعة أسلوبها الترهيبي الذي تتعامل به مع الخطباء المخلصين والناصحين لبلدهم وأمتهم. وأن تفسح لهم المجال للعمل والاجتهاد من أجل تحقيق مقاصد خطة “تسديد التبليغ”. وذلك بأن تحدد لهم الخطوط العريضة للخطة، ثم تترك لكل خطيب المجال ليتصرف بحسب واقعه وأحوال المخاطبين في منطقته. بهذه المرونة يمكن أن تنجح الخطة، وأما الجمود والتَّصَلُّب فَسَيُحَوِّلُها من التسديد إلى التحييد. وسيجعل الناس يشككون في الأهداف الحقيقية لهذه الخطة، ويتساءلون عمن يقف وراءها.
كانت هذه صيحة نذير، ونصيحةُ غَيُور. ولمن يهمه الأمر بعد ذلك واسع النظر. ولكن عليه أيضا في حال إصراره على توحيد الخطبة أن يتحمل مسؤوليته إذا فشلت الخطة، أو أفضت إلى نتائج كارثية {إِنُ ا۟رِيدُ إِلَّا اَ۬لِاصْلَٰحَ مَا اَ۪سْتَطَعْتُۖ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُۖ}.




هل ستتحول وزارة الأوقاف إلى ما كانت عليه كنائس القرون الوسطى ؟؟؟
سيتبين بعد حين إن شاء الله أن ما خفي أعظم!
بوركت أيها الخطيب
مقال رزين وأسلوب متين
هدى الله القائمين على الشأن الديني وعلى جميع المجالات