في السنوات القليلة الماضية، عاشت أمتنا أهوالاً شديدة ومحناً صعبة، خاصة وأنها كانت تُبثّ في التو واللحظة بالصوت والصورة، فنُقلت بشاعة وفداحة حجم المآسي والكوارث التي أصابت أهلنا من الأبرياء والضحايا، أطفالاً وكباراً، رجالاً ونساءً. وكان الشِّعر في السابق يخلد تاريخ العدوان على أمتنا بأدق التفاصيل، ومن ذلك قصيدة كمال الدين بن العديم عن كارثة غزو المغول لحلب العام 658هـ/ 1260م، قَبْلَ معركة عين جالوت بفترة قصيرة، فقال:
وعن حلبٍ ما شئت قل من عجائبٍ***أحلَّ بها يا صاحِ إن كنت تعلمُ
غـــداة أتــاهــا للمـنـيـة بـغـتـةً***من المُغْل جيش كالسحاب عرمرمُ
فـيا لـك مـن يـومٍ شـديـد لـغـامـه***وقد أصبحت فـيه المساجدُ تُهـدمُ
وقد دَرَستْ تلك المدارسُ وارتمت**مصاحفُها فوق الثرى وهي ضخَّمُ
فـيا حـلـبـًا أنَّى ربـوعـك أقــفـرتْ***وأَعْـيَـتْ جـوابًـا فـهـي لا تـتتكلمُ
ولكن سرعان ما انكشفت الغمة، وعادت حلب تنشر الأمل والنور والسعادة في الإسلام والإيمان، والذي سيكون قريباً بإذن الله.
وتتعرض حلب اليوم لجرائم مروعة لا يكاد يصدقها العقل، من قبل المجرمين من بقايا نظام بشار والذي يعاونه الطائفيون من إيران ومن يتبع لها في لبنان والعراق وأفغانستان وغيرهم، مع دعم طيران الروس أصحاب التاريخ الحافل بالإجرام عبر العصور حتى زمن بوتين الذي لا يخفي أطماعه في دول الجوار، بل مارس إجرامه بحق أوكرانيا فعليا.
لكن مع كل هذا العدوان الوحشي من الروس والإيرانيين ومليشياتهم الطائفية في دول العالم وبقايا شبيحة بشار، تمكنت حلب أن تنفض عنها الغبار وتعاود الإمساك بزمام المبادرة والهجوم.
فحين أخذ أهل حلب بالأسباب الصحيحة للنصر من اللجوء إلى الله أولاً، وتوحيد الصف والجهد والتعاون المشترك ثانياً، واستثمار كل الطاقات والموارد كما رأينا في تعطيل الطيران الروسي بحرق الإطارات ثالثاً، رأينا أن الأمة تداعت لهم بالدعاء والابتهال وما يمكنها من دعم وإغاثة، ورأينا بشائر التحرير والنصر وفرار الجبناء المعتدين.
إن ما جرى في حلب وجرى مثله في اليمن وليبيا يدل دلالة قاطعة على أن أمة الإسلام أمة حية؛ قد تمرض، قد تضعف، قد تتراجع، قد تخسر جولة، لكنها أمة حية لا تموت.
وهذه حقيقة يدركها أعداء الإسلام بدقة ووضوح، ويعرفون مصدر حياة الأمة المسلمة ومصدر قوتها، وهو الإسلام والقرآن والإيمان والشريعة والعبادات والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، إنهم يدركون ذلك بكل تفاصيله.
إنهم يعرفون أنهم على الباطل بالعدوان على حقوق الآخرين بشكل مباشر؛ بالاحتلال والاستعمار كحال اليهود في فلسطين وإيران للأحواز مثلاً، أو بشكل غير مباشر عبر نهب خيرات الشعوب باسم الشركات عابرة الحدود ومتعددة الجنسيات، أو عبر الهيمنة والنفوذ على أنظمة محلية. وهم يعرفون أن الإسلام بما يدعو إليه من حرب الظلم ورفض العدوان هو الكفيل بإنهاء هذا الظلم في العالم، ولذلك لا بد عندهم من عرقلة مسيرة الإسلام.
إنهم يعرفون أن الحفاظ على شهواتهم وأهوائهم ومتعهم التي تدر عليهم فوق ذلك مليارات الدولارات عبر تجارة الجنس والمخدرات وغيرها، لا يمكن أن تستمر إذا سمح للإسلام أن ينتشر بين البشرية، فهو يحارب الزنا والفواحش ويحارب الخمر والمسكرات، والانحلال وقلة الأدب، ويحث على الصدق والأمانة وإعانة المسكين والضعيف، ويدعو لمعالى الأخلاق وعدم الانجرار المهلك خلف زينة الحياة الدنيا التي أصابت الناس بالأمراض في أبدانهم والقلق في أرواحهم، وهذا كله يتعارض مع أطماع أعداء الإسلام والبشرية.
إنهم يدركون أن هذه الأمة يمكنها، وخلال فترة وجيزة، أن تشعل روح الحق والشجاعة والبطولة في قلوب صغارها قبل كبارها، ونسائها قبل رجالها، إذا تحررت من الحواجز التي تحول بينها وبين دينها وإسلامها وقرآنها.
هذه الحواجز التي تتنوع بين حواجز قاسية من القمع والمنع للمساجد والمدارس والعلماء من التواصل مع الشعوب المسلمة؛ وحواجز أخرى ناعمة بفتح باب الشهوات على مصراعيه، وساهمت ثورة الاتصالات في ذلك بقوة فأصبحت كثير من برامج الانحلال تبث بتوقيت مكة المكرمة!
وهناك حاجز إشغال الناس بلقمة العيش؛ إما بالفقر والعوز وإما بالغنى والترف، واشغال الناس بالبحث عن الأمن والأمان والاستقرار، والتلاعب بنوعية التعليم ليخرج جيل من المنفذين، لا المفكرين والمبدعين!
وبرزت مؤخراً حواجز جديدة ترفع شعارات الإسلام والدين، لكنها كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن كون أصحابها “دعاة على أبواب جهنم” برغم أنهم “يقولون من قول خير البرية”. وفعلاً، أصبحت منابر الغلاة والمتطرفين في وسائط التواصل الاجتماعي ومنابر الطائفيين في القنوات الفضائية ومنابر علمانيين وحداثيين تطالب بإسلام مدني وشعبي وحديث وحداثي، أصبحت كل هذه المنابر حواجز بين المسلمين وبين حقيقة الإسلام والدين.
إن أعداءنا يعرفون بدقة أن الإسلام يدعو للإيمان القائم على العلم وإعمال العقل واتباع الحق ونصرة المظلوم ومساعدة المحتاج والتعاون على الخير والتمسك بفضائل الأخلاق، وهذه مفاهيم أساسية ومباشرة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ولذلك، فإن أي تعامل مباشر وصادق مع القرآن الكريم والسنة النبوية يحوّل المسلمين من حال إلى حال، خاصة إذا أزيلت الحواجز المعيقة من الشبهات والشهوات من طريق المسلمين، إذ عندها تبرز قوة المسلمين الإيمانية والأخلاقية، وبذلك تتحسن أحوالهم على صعيد الكرامة والحرية أولاً، ولذلك لا يستكينون للظلم والاحتلال والعدوان ويبقون صامدين برغم قلة الإمكانات وانعدام النصير، بل وترى البسمة على وجوه الصغار قبل الكبار، وترى السعادة برغم الفقر والعوز، وترى الكرامة والكبرياء برغم المصاب وفقد الأحباب، وهذا يظهر بوضوح في كثير من صور ومقاطع الصغار والكبار من أهلنا في سورية.
وكلما زادت علاقة المسلمين بالقرآن الكريم والسنة النبوية، زادت لحمتهم في العائلة والعشيرة والبلد والأمة ثانياً. والتفاف الأمة جميعاً بالدعاء لحلب ومن قبلها تركيا وغيرها، لهو من أمضى أسلحة المؤمنين التي يدركها أعداء الأمة وينكرها أفراخهم من بني جلدتنا!
وثالثاً، فإن حالة المسلمين تتحسن كلما روعيت قيم الإسلام في الإدارة العامة؛ بالحرص على الإتقان والأمانة وخدمة الناس والإبداع في ذلك، ومراعاة مقاصد الإسلام بحماية الإنسان والأخلاق والبيئة.
ورابعاً، تتزايد نسبة الإقبال على الإسلام من أقطار الدنيا بسبب ما يشاهده العالم في الإسلام من إيمان وسلام وعدل ومحبة، وما يشاهده من المسلمين من شجاعة وتكاتف وتراحم وصبر ورفض للظلم.
فيا أيها المسلمون: مزيداً من الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، لنسعد في الدنيا والآخرة ونحمي أوطاننا ومقدساتنا، ولتعمر الأرض بالسلام والرحمة والعدل. ولنقطع الطريق على المشوّهين لحقيقة الإسلام من الغلاة والطائفيين المتطرفين.
ويا أهل حلب وسورية: مزيدا من الصلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، لتتوحد صفوفكم وتجتمع كلمتكم وتأخذوا بالأسباب الصحيحة، فيتحرر بلدكم كما تحررت نفوسكم من ظلم الظالمين وعدوان المجرمين.