من ملاعب معشوشبة إلى حقول قاحلة مقفرة؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الجمعة 26 فبراير 2016
موضوع نتساءل بخصوصه، وبدون مقدمات: ما المردود المادي الذي نجنيه من وراء إنفاق ملايير الدراهم سنويا على لعبة كرة القدم وحدها، بصرف النظر عما ننفقه على باقي الألعاب الرياضية، ومغربنا يعاني من البطالة والفقر والتهميش ما يعانيه؟
أموال بالملايير تتقاطر موزعة على مختلف الجامعات المسؤولة عن هذه الرياضة أو تلك! وعن طيب خاطر حكومات متعاقبة. خاصة وأنها هي التي تحدد الميزانية السنوية -وهي مسؤولة أمام الشعب- فضلا عن كون نواب الأمة في الغرفتين، أهم ضلع في مناقشة الميزانية وإقرارها؟ أو لا نندهش عندما نعلم بأن الرواتب الشهرية للمدربين بالقسم الوطني الأول، تتراوح ما بين (5 ملايين سنتيم و25 مليون سنتيم). مما يعني أن بعض المدربين يتقاضون ست مرات راتب رئيس الوزراء مع نهاية كل شهر!!! وأغرب من هذا أن المدرب المعين حديثا لتدريب الفريق الوطني يتقاضى (60 مليون سنتيم) شهريا! بينما تدفع الجامعة ضريبة هذا المبلغ سنويا من ميزانيتها الخاصة وقدره (25 مليون سنتيم)!!! بصرف النظر عما سوف يحصل عليه هذا المدرب إن هو نجح في تأهيل المنتخب إلى نهاية كأس إفريقيا وإلى نهاية كأس العالم!!! وما علينا نحن أمام هذا الإسراف في الإنفاق على الرياضة غير المطالبة بمتابعة حكومة بنكيران الحالية على الأقل!!! وللشعب المغربي -وهو على علم بما يجري- أن يستمر في الحداد الذي لازمه وأجبر عليه وتعود، منذ الاستقلال حتى الآن!!!
لكن الفلاحين الصغار، والذين تناط بهم مهمة إطعام ملايين من المغاربة، إلى جانب مهمة المساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب على الخصوص. لا يحضرون كرقم ذي دلالة في سجلات الدولة، إلا إذا تعرضوا لآفة طبيعية كالقحط والجفاف، والفيضانات، والحرارة الشديدة؟ حتى في الأحوال العادية، حيث تنزل الأمطار بانتظام، نجد صغار الفلاحين على مستوى إنتاج الحبوب، يتعرضون لهجمات الأعشاب الضارة والسامة. هذه التي تتغذى دون استدعاء من الفلاحين، على نفس المواد التي تتغذى عليها المزروعات! بحيث إننا نقف على حقول، دون أن نستطيع التمييز فيها بين ما هو مزروع بإرادة الفلاحين، وبين ما هو مزروع وهم له كارهون! فقديما – وفي البوادي حتى الآن – تتولى النساء تنقية المزروعات من تلك الأعشاب كي تستفيد منها البهائم. إلا أن الإصرار على تحرير المرأة كعنوان من عناوين الحداثة والتحرر من القديم المتخلف، دفع المرأة إلى رفض ممارسة تلك الأعمال الشاقة! ومع ذلك لا زلنا نشاهد النسوة يقمن بها، كلما أتيحت لنا زيارة البوادي في مختلف المناطق.
ففي الوقت الذي كان فيه على الدولة أن تتولى مجانا عملية رش المبيدات -لإزالة الأشعاب الطفيلية- بالطائرات الخاصة كالتي تستعمل لمحاربة الجراد، وجدناها تصرف النظر عن عملية إنقاذية، غيابها يعني أن يعطي الهكتار الواحد خمسة قناطير من القمح أو الشعير؟ في حين أنه يعطي ثلاثين قنطارا وزيادة متى نجا من الإصابة بأكثر من عدوى محتملة، وفي مقدمتها الأعشاب التي لا يمكن وصفها إلا بكونها طفيلية!
ثم إن عملية العرض والطلب، كعنصر أساسي في الاقتصاد الحر، أو في اقتصاد السوق بالنسبة للفلاحين الصغار، تمثل في أغلب الأحيان، ضربة موجعة في الصميم. فعندما لاحظ أحد الفلاحين -وأنا على معرفة به- ارتفاع ثمن “القرعة” (= فصيلة من اليقطينيات) في إحدى السنوات، زرع منها في السنة الموالية جل فدانه (4200 متر مربع)، آملا وراء زرعها الحصول على ربح يحسن به أحواله المادية. فإذا بأغلب فلاحي المنطقة ينفذون نفس الفكرة! فكان أن غرق السوق في السنة الموالية ب”القرعة” التي تباع بثمن بخس. فلم يجد صاحبنا غير العودة بحمولته منها إلى منزله، مفضلا تقديمها إلى بهائمه على التصدق بها إن صح هذا التعبير! ومثل ما حصل له، حصل ويحصل لآلاف الفلاحين عبر التراب الوطني.
وما نحكيه مبني على المعاينة، تعلق الأمر بـ”القرعة”، أو تعلق ب”البصل”، أو بـ”البطاطس”، أو تعلق بغيرها من أنواع الخضر. وكأن قانون العرض والطلب، كقانون تجاري مجحف لا مفر منه؟ لا يمكن للدولة بحكم نظامها الليبرالي المعتمد لديها إلغاؤه؟ إذ إلغاؤه بمثابة تدخل سافر في مسمى حرية التجارة! مما يعني السماح للأقوياء بالتهام الضعفاء، بحيث يسود على الأرض فعلا، وفي المجتمع البشري تحديدا ما سماه جان جاك روسو ب”قانون الأقوى”؟
وما وصفناه موجزين، يجعل المستهلكين باستمرار أمام حالتين بخصوص الخضر في الأحوال العادية، وفي الأحوال الطارئة. فإن كثر العرض وقل الطلب يصاب الفلاحون الصغار بنكسات. بينما يبتهج المستهلكون لوفرة حاجياتهم من الخضر بأثمان متدنية، ولو على حساب خسارة الفلاحين الصغار! أما إن قل العرض وكثر الطلب، وشعر بعض الفلاحين بالارتياح، فإن الفئة الاجتماعية الضعيفة المستهلكة لمنتوجاتهم، ترتفع معاناتها بسبب وجود وسطاء محتكرين لتلك المنتوجات، إلى حد عنده تتضاعف أثمانها؟
بينما الفلاحون الكبار -حتى وهم لا يمارسون الفلاحة بأنفسهم كمهنة- لا يعانون من نفس معاناة الصغار. إنهم يتوفرون على كل ما هو ضروري -إلى حد ما- لمواجهة أية آفة تلحق بمختلف مزروعاتهم البورية والسقوية، كما أنهم لا يجدون أمامهم نفس الصعوبات التي يجدها الصغار عندما يعرضون منتوجاتهم للبيع. إنهم يصدرون -مرة بوسائط، ومرة بغيرها- إلى خارج البلاد أطنانا من الحوامض والخضر المتنوعة، ويحصلون مقابل تلك الأطنان على العملة الصعبة. مع التنصيص على وجود فريقين من هؤلاء الكبار: فريق يهرب من أداء الضرائب الجمركية عند التصدير، نظرا لنفوذه في الدولة! كما يمكنه الاحتفاظ خارج الوطن بأموال طائلة. وذلك في الوقت الذي عليه إدخالها إلى بلده ليجري استثمارها فيما يعود بالنفع على آلاف العاطلين عن العمل. وفريق يؤدي الضرائب الجمركية، فضلا عن كونه -تحت المراقبة- لا يحتفظ بمقابل صادراته من العملة الصعبة في البنوك الأجنبية!
وأغرب ما يثير الانتباه، هو أن يحصل الفلاح الصغير الذي يخدم أرضه على مبلغ (60 درهما) في اليوم كأجرة له، كما أخبرني مهندس فلاحي جاب المغرب كله في حدود أداء مهمته. فهل بمقدور هذا الفلاح أن يعول أسرته؟ هل بإمكانه توفير كافة حاجياتها الضرورية؟ وهل بإمكانه إرسال أبنائه إلى المدرسة، بحيث إنه يتوقع حصولهم لاحقا على وظيفة، بمقدورهم من خلالها مساعدة العائلة التي تعاني من شظف العيش؟
إنها أسئلة لو خطرت ببال الحكومات المتعاقبة، وتحديدا -في هذه اللحظة التاريخية- لحرصت أشد ما يكون الحرص على إصلاح أحوال الفلاحين الصغار، بدلا من صرف أموال طائلة في ميادين غير مثمرة بالمرة. فالملايير التي تصرف في مختلف أنواع الرياضات، والتي تصرف لإقامة مهرجانات للغناء… وأخرى للموسيقى الروحية والجسدية… وأخرى لاستضافة مختلف التظاهرات الرياضة، لغاية الحصول على البطولات، كان بالإمكان أن تنقذ آلاف العاطلين، وتسعد آلاف الفقراء والمساكين والمرضى والعاجزين؟
لكن لمن تدق الأجراس؟ ولمن يؤذن المؤذنون حين ينادون بأعلى الأصوات: حي على الصلاة! حي على الفلاح! إذ أنه لا مفعول الصلاة نقرأه ونلمسه في سلوك الحكام؟ ولا مفعول الفلاح تترجمه تصرفاتهم التي لا يمر يوم دون أن تحملها إلى الجماهير مختلف القنوات الإذاعية والتلفزية؟ هذه التي لم تترك لجلب الأنظار، وكسب العطف على الرسميين، أية وسيلة عقلانية وغير عقلانية إلا اعتمدتها! وكأن جل المشاهدين والمستمعين ضعاف العقول! بلداء الأذهان على أوسع نطاق! وإلا فما الذي يعني المغاربة من تقديم صور عن مواسم مسمى الصالحين؟ وعن شطح صوفي لم تكن له أبدا بالإسلام أية صلة، وكأنه ضمن ما يتم تدبيره من الدين على يد وزير، هو نفسه من ضمن المؤيدين لرقص فارغ من أي مدلول ديني! إن نحن تعقلنا الدين الحق على خير وجه؟ وهل يعتقد الرسميون بأن المغاربة أغبياء إلى الحد الذي يعتقدون عنده أن الموتى “يصحبون” و”يكلمون” و”يسمعون” و”يستجيبون”؟ هذه المعتقدات التي نفاها القرآن كدستور للمسلمين الذي يغيب حضوره، في المخطط السياسي المغربي! وفي المخطط الاقتصادي! وفي المخطط الاجتماعي! بل إنه غاب حتى في المخطط التعليمي والتربوي! أولا يكفينا الاستنكار والاستهجان لما يصر الرسميون على استعراضه كصور لدرابيز الأولياء المتوفين المزورين المقدسين؟ أو لا يكفينا قوله تعالى -وهو يدعو إلى عبادته وحده وإلى نبذ أنواع الشرك كلها-: “إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم! ولو سمعوا ما استجابوا لكم! ويوم القيامة يكفرون بشرككم! ولا ينبئك مثل خبير”!
إذ في الوقت الذي يتوفر فيه ديننا على مبادئ الأخوة، والمحبة، والإحسان، والكرامة، والعدل والحرية، والتكافل والمساواة، وجدنا كل هذه البمادئ غائبة عن حكوماتنا التي يروقها في بعض الأحيان أن تظهر جودها أو سخاءها حين توزع بعض الحاجيات على المعوزين، مقرونة تصرفاتها ببهرجة يتقن تمثيلها الصحفيون الرسميون، وإلى جانبهم الصحفيون الذيليون. حتى الالتجاء إلى بيع “الشارات” حين تخنق الأزمات الاقتصاد المغربي، تتجنب الدولة وصف ما تقدم عليه بالصدقة! بينما هي في الحقيقة تلجأ إلى الاستجداء أو التكفف؟؟؟
دون أن ندخل هنا في التفاصيل التي نجد المثير فيها، حضور المتظاهرين بالصلاح، والغيرة على الوطن في طليعة النهابين لأرزاق العباد! (كم من متحزب ضبط في اسوأ الحالات؟) حيث إننا جميعنا على بينة تامة من كون ميزانية الدولة، يساعد فيها الفقراء بفعالية عن طريق الضرائب غير المباشرة، تضاف إليها الضرائب المباشرة إلى جانب مصادر أخرى لما يصب في بنك الدولة وفي خزانتها العامة من أموال وفيرة. فكيف يفوت المسؤولون -وهم مثلنا على بينة مما وصفناه- أن ينفقوا -كما قلنا- أموالا طائلة في ميادين، مردودها لا يتجاوز دغدغة الرأي العام الداخلي والخارجي لامتداح الدولة من جهة!ولجلب أنظار السواح إلى بلادنا من جهة ثانية! وكأن حكامنا يحاكون القديم الذي كان فيه قادة الدول العربية، يتصرفون في بيت مال المسلمين، بحيث يصدرون أوامرهم لتقديم آلاف من الدنانير لزيد الشاعر! ومثلها أو أكثر منها لشاعر آخر هو عمر أو سعيد!!! فكان أن عرفنا مثلا ما يعلل به قول ابن هاني الأندلسي في مدحه للمعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار….فاحكم فأنت الواحد القهار!
فكأنما أنت النبي محمــــــد….وكأنما أنصارك الأنصار
فصح -وقريحة الشعر عندنا أصبحت ضامرة- أن يتولى مديرو الصحافة الرسمية والذيلية، دور الشعراء المداحين، عبر مختلف الإذاعات الوطنية من ناحية، وعبر القنوات الفضائية -وما أكثرها- من ناحية ثانية؟؟؟