مهارات قرائية للمتسابقين

15 يناير 2025 20:36

هوية بريس – حميد بن خيبش

تتفاعل جل المؤسسات التعليمية ببلادنا مع حدثين قرائيين مميزين: تحدي القراءة العربي، والمشروع الوطني للقراءة بالمغرب. كلتا المبادرتين ترومان تحقيق نهضة قرائية، واستعادة التوازن المعرفي بين الكتاب وباقي الأجهزة الرقمية التي استحوذت بشكل مثير على اهتمامات الطفل. وكلتاهما تتطلعان لما خلف أسوار المدرسة، بغية جعل القراءة طقسا يوميا، وإحياء صلة الرحم مع المكتبات التي شاخت وسئمت تكاليف الحياة، لولا بقية من أولي الشغف!

قد تبدو القراءة في ظاهرها عملية بسيطة، يربط من خلالها القارئ بين اللفظ ومعناه لتحقيق الفهم؛ لكنها في الحقيقة عملية شديد التعقيد، حيث تشترك في أدائها حواس وقابليات مختلفة، منها قابلية التجريد والتعميم التي يظهر فيها عمل خبرة الفرد المتعلم، إضافة إلى انفعاله بما يقرأ وما يعنيه ذلك من خواص نفسية تحقق له تفريغ انفعالاته، والحد من اضطراباته النفسية والسلوكية.

لذا فإن تدبير مشروع قرائي داخل الفصل بحاجة إلى الاستعانة ببعض المهارات التي تحرره من غرضه التعلمي-المدرسي، لتكسبه سمات القراءة الحرة التي تحقق الاستمتاع، والرياضة العقلية والأدبية، وتعزيز الميل القرائي الذي يربط الطفل بالكتاب خارج أسوار المدرسة، وخارج الفعاليات الموسمية التي لا يمكن اعتبارها بأي شكل من الأشكال سقفا لطموحات القارئ الصغير!

درجنا على الاعتقاد بأن محب الكتب يكتسب هذا الشغف من تلقاء نفسه، إما بفضل جينات وراثية، أو لأن الأسرة تهتم بالكتب كجزء حيوي من فضاء المنزل؛ غير أن معظم محبي الكتب يكشفون عن أعمال محددة قام بها الآباء أو الأمهات لتنمية عادة القراءة لدى صغارهم. تلك العادات صار بالإمكان، في ضوء عدد من الأبحاث والدراسات، ومعطيات علم نفس القراءة، تحويلها إلى خطوات وإجراءات منطقية تيسر حب القراءة.

داخل كل فصل دراسي يمكننا الوقوف على ثلاثة مستويات قرائية: مستوى استقلالي، يتمتع خلاله الطفل بأداء قرائي متقن. ومستوى تعليمي، يحقق خلاله القراءة بشكل جيد، مع بعض المساعدة. ومستوى إخفاقي ينخفض فيه الأداء بنسبة خمسين بالمئة. وهذا يعني ضرورة تشخيص الأداء القرائي لوضع خطة تتناسب مع وتيرة القراءة لدى كل فئة.

ومن المهارات التي تسهم في التشجيع على القراءة: خلق حالة وجدانية داخل الفصل إزاء الكتاب والقراءة بشكل عام. فالأمر كما قلنا لا يتعلق بواجب مدرسي، يؤديه الطفل بنفس الروتين المعتاد في الواجبات المنزلية. ولتحريره من هذا التمثل المحبط أحيانا، لا بأس أن يدشن المدرس مشروع القراءة بالحديث عن الكتب التي استمتع بقراءتها، ويُشرك الصغار في المناقشة وإبداء الرأي. ذلك أن مجرد الإعجاب بكتاب واحد قد يمتد ليصبح حبا للقراءة بشكل عام.

وقد يتطلب الأمر قراءة قصص مختارة بصوت عال لتنمية الطلاقة والتأثير القرائي، دون أن يتحول الأمر إلى حصص في القراءة المسموعة.  إنها إحدى الأساليب التي تكوّن الميل القرائي، وتُشعر الطفل بقدر من الارتياح أثناء ممارسة القراءة.

ولأن الطفل ينفتح على عالم الكتب خارج قيود الفصل الدراسي، فإنه بحاجة لمهارات تساعده على اتخاذ القرار، وتحديد الكتاب الذي سيقرؤه دون الحاجة لتوجيه مسبق. فقد جرت العادة أن يستخدم الطفل عمليتين أثناء القراءة: الأولى هي التعرف المباشر على الكلمة المألوفة، من خلال الإدراك الفائق والكلي لنطقها وشكلها ودلالتها. والثانية هي التعرف على الكلمة غير المألوفة برد كل حرف أو مقطع إلى مقابله الصوتي، ثم التوليف بين المقاطع لقراءة الكلمة. غير أن في الأمر جهدا قد يُحدث لاحقا بعض النفور والانصراف؛ لذا فهو بحاجة للتدرب على القراءة بجميع الأبعاد، أو ما يسمى بالإبصار المحيطي للكتب؛ بمعنى أنه بدلا من قراءة الصفحة كلمة كلمة أو سطرا سطرا، عليه أن يتدرب على رؤية جميع الكلمات التي تحتويها الصفحة ويندفع في الإحاطة بها، وبذلك يقاوم الغشاوة التي غالبا ما تعتري معظم الناس حين ينظرون إلى مادة مطبوعة.

يتطلب الأمر أيضا اهتماما بالأنشطة التي تقودهم إلى الكتب وتعزز صلتهم بها، كالمسرح المدرسي، وتصميم المجلات، والخطابة؛ لأن من شأن هذا الرؤية النسقية للأنشطة المدرسية أن تُموضع الكتاب في حياة الطفل باعتباره رافدا من روافد الحياة وليس المعرفة فحسب.

أثناء القراءة يستدعي الطفل حصيلته اللغوية، وخبراته السابقة من أجل توقع معنى النص؛ لكن قد لا تسعفه تلك الحصيلة في فهم بعض الكلمات، أو تشوش على إدراكه لها داخل سياق غير مألوف. في هذه الحالة ينبغي إرشاد المتعلم إلى بعض المهارات القرائية التي يستعين بها اثناء قراءته الحرة، ومنها تخمين المعنى باستخدام مؤشرات السياق، والاستعانة بالهوامش والإشارات التي تفتح وعي الطفل على مستويات أخرى لم يألفها في النصوص المدرسية المقررة.

ويمكن للمدرس أن يستعين في تطوير هذه المهارة لدى القراء الصغار بأسلوب الإرشاد، scaffold، الذي تعرضه نظرية فيغوتسكي، وُيمكنهم من تحقيق تعلم أكثر رقيا؛ حيث يقدم إرشادات تقود الصغار إلى اكتشاف الحل بأنفسهم، وباستمرار الإرشادات والتفاعلات التعاونية بين الأطفال يرتفع مستوى أدائهم في القراءة.

وحتى تظل القراءة نشاطا يستمتع الطفل بأدائه، فهو بحاجة إلى منسوب من الحرية قد يثير شيئا من الاعتراض أو التخوف، خاصة حين يتعلق الأمر بقصص الإثارة والعنف. إن الطفل الذي يقرأ عن العنف هو في الغالب أقل عرضة للوقوع فيه، لأن القراءة تفتح وعيه ليدرك النتائج السلبية لتلك الممارسات، والنهاية غير السعيدة لأبطالها. وبذلك فهو يُشبع فضوله وحب استطلاعه دون التفكير في تكرار التجربة بنفسه.

تصبح القراءة وفق هذا المنظور المفعم بالإنسانية، مجموعة من المهارات التي يُسند بعضها بعضا لربط القارئ الصغير بالحياة العملية، وتكسير ألواح الجليد التي تتشكل بفعل قراءة روتينية يفرضها الإيقاع المدرسي، لتصبح قراءة يرغب فيها الطفل، ويراهن على عوالمها الرحبة والخصيبة للتخفيف من وطأة واقعه!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M