موت العلماء رزية للأمة
هوية بريس – أ.د الحسن العلمي
إن فقد علماء الأمة ليس كفقد غيرهم من العوام، إذ هو أفول مصابيح العلم، وسبيل البلايا والرزايا التي تصاب بها الأمة، فبذهابهم يظهر الرؤوس الجهال كما في حديث عبد بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (). والمراد بقبض العلم كما قال النووي: «ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنه يموت حملته، ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم فيَضلون ويُضلون»().
وإذا مات العالم بكى لفقده كل موضع في الأرض، حيث تفتقده الأندية والمجالس والدفاتر والمنابر، فيكون موته رزية للأمة، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأسى لموت العلماء، ولايبالي بملء الأرض من جهال المتعبدين، ويقول: «لموت ألف عابد قائم الليل صائم النهار أهون من موت العاقل البصير بحلال الله وحرامه»() وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة»()
وقد فُجعت الأمة خلال هذه السنة بموت ثلة من نجوم علماء المغرب الكبار، الذين أنار الله بهم دياجير الظلمات لشباب الصحوة الإسلامية المعاصرة، بدءا بشيخنا العلامة محمد الأمين الحسني رحمه الله أحد أعلام الأمة المجددين وأئمتها المحدثين، مسند الديار المغربية، وحامل لواء السلفية، ممن يعز أن يأتي الزمان بمثلهم في عهد ذهاب العلماء الأخيار، وتناقص الفضلاء الأبرار، ودروس آثارهم على مر السنين والأيام. والشيخ العالم المجاهد صاحب الأيادي البيضاء في فعل الخيرات العياشي أفيلال، الذي تذكر آثاره مساجد ومعاهد شمال المغرب، والشيخ الداعية المجاهد محمد الفزازي رحمه الله،أحد رواد الصحوة الإسلامية الأوائل بالمغرب. وخلائق من أساتذة الجامعات المغربية من أمثال الدكتور عبد الهادي الخمليشي رحمه الله الذي كان من ضحايا هذه الجائحة نسأل الله أن يرفع بلاءها عن الأمة، مع ما كان عليه من قوة وفتوة نسأل الله أن يغفر له ويرحمه.
وبالأمس القريب فُجعنا بوفاة أخينا ورفيق دربنا في طلب العلم علامة الأطلس المحدث الأثري عبد الحق يدير، الذي توفاه الله بعد مرض عضال بمستشفى مدينة أزرو. وكذا حبيبنا وقريبنا الدكتور مولاي امبارك العلمي الأديب واللغوي المفسر، رئيس المجلس العلمي لإقليم مديونة، وأستاذ التعليم العالي سابقا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وكذا فضيلة أخينا العالم الجليل عبد الله اكديرة رئيس المجلس العلمي بالرباط. رحمهم الله جميعا.
والحق أنه قد نُعيت إلينا نفوسنا بموت هؤلاء الأعلام، نسأل الله تعالى أن يغفر لهم ويرحمهم، وأن يكرم نزلهم ويوسع مدخلهم، وأن يبدلهم دارا خيرا من ديارهم، وأهلا خيرا من أهلهم، وأن يرحمنا جميعا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه . وإن المغرب قد فقد بموتهم علماء ربانيين، وثلة من الأحفياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا أولئك مصابيح الهدى تنجلي بهم كل فتنة عمياء .
ويعتبر أخي الدكتور عبد الحق يدير من خلص رفقاء الدرب في طلب العلم، ومن أوفى وأصدق من عرفت من أهل العلم، صحبته قرابةثلاثين سنة منذ التقينا بجامعة المولى إسماعيل بمكناس عام 1982م.
وهو أبو عمران عبد الحق بن محمد يدير الورياغلي نسبا الزرهوني مولدا، الأطلسي منشأ ومنزلا، ولد عام 1960م بقرية بوعسل بجماعة وليلي ناحية مكناس، وطلب العلم صغيرا بتلك القرية، ثم استقرت أسرته بمدينة أزرو، وقد لازم طاعة الله منذ أيام الصبا، فلم يعرف ما كان يعرفه الشباب من لهو وعبث، وبعد أن هاجر والده للعمل في فرنسا، وطال غيابه، كان عبد الحق قد شب عن الطوق، فتحمل شؤون الأسرة، فكان يشتغل في أيام العطل ليعيل والدته وإخوته الصغار، ويواصل دراسته في جد ونشاط. وقد كان متفوقا بين أقرانه لما وهبه الله من ذاكرة قوية وهمة في التحصيل.
عرفته رحمه الله شابا مؤمنا من شباب الصحوة الإسلامية العاملين، وأحد المخلصين الأوفياء ممن لقيت، مشمرا في طلب العلم، لايعرف الملل و الكلل إلى نفسه سبيلا، صاحب همة في العلياء، ونفس أبية لاتقبل الضيم و الهوان، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه الصبوح، رغم ما كنا نعيشه أيام طلب العلم من شظف العيش وقلة ذات اليد. وكان يزينه إلى ذلك كرم وإيثار وخلق إسلامي رفيع، فكنا نلقبه ب(الليث بن سعد) الذي كان مشهورا بالعلم والكرم بين طلاب العلم .
وقد هيأ الله لنا يومئذ ثلة من العلماء الأكابر من لبنان والعراق، كالدكتور الفقيه الأصولي عبد الله الجبوري والدكتور المفكر الإسلامي محسن عبد الحميد، والدكتور الأديب محمود سمارة، والدكتور المؤرخ لبيد إبراهيم، وكذا الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله الذي كان يعقد مجالس للعلم في بيته بمكناس.
وكنت وأخي عبد الحق يدير كفرسي رهان، مع ثلة من طلبة العلم منهم أخونا الأستاذ عبد الفتاح القباج والدكتور محرزي علوي أحمد، والدكتور محمد بولوز، نحرص على حضور دروس ومحاضرات هذه النخبة المتميزة من العلماء، ونتنافس في كتابة أماليهم، ولانضيع وقتا في مجالس غيرهم من ضعفاء الأساتذة المقصرين. وكان أخونا عبد الحق ضمن هذه الثلة آية في سرعة النسخ والكتابة، حتى كنا نخرج من المحاضرة بنسخ ما يربو على عشر صفحات مما يلقيه الأستاذ، وكنا إذا اختلفنا في شيء نرجع إلى نسخةالشيخ عبد الحق، ﻷنه كان لا يفوته شيء مما نسمعه.
وقد توالت علينا الأيام والليالي والسنون في طلب العلم، بين جامعة المولى إسماعيل بمكناس، وجامعة محمد الخامس بالرباط، ودار الحديث الحسنية، مع هذه الرفقة من طلاب العلم المجدين، ديدننا تلخيص المصنفات في مختلف العلوم، وحفظ المختصرات والمتون، والاسترواح بنوادر الأشعار والمقامات.
وكان أخونا عبد الحق يدير أحد المبرزين المتقدمين في هذا الشأن، حيث كان آية من آيات الله في الحفظ والاستيعاب، وأذكر أننا كنا نتناشد المعلقات السبع في مجالس الحفظ، فكنا من وطأة المنافسة نحفظ في الساعة الواحدة زهاء خمس وعشرين بيتا من معلقات الشعر الجاهلي.
وأذكر أن مما نفعني الله به خلال رفقتي للشيخ عبد الحق يدير رحمه الله الحرص والتنافس في دراسة آثار السنة وأصول العقيدة من خلال كتب السلف، لاسيما مؤلفات ابن عبد البر الأندلسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ومؤلفات ابن الجوزي، والإمام الذهبي رحمهم الله جميعا، حيث اتخذنا وردا يوميا بعد صلاة العشاء أن نقرأ صفحات مختارة من مصنفات هؤلاء الأعلام، كجامع بيان العلم وفضله، ومجموع الرسائل والمسائل، وفتاوى ابن تيمية، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، وميزان الاعتدال، وبيان زغل العلم والطلب، ثم كتاب تلبيس إبليس الذي جعلناه أنيسا وسميرا نحفظ شوارده ونوادره.
وكان من عادتنا بعد الفراغ من تلخيص العلوم المقررة وحضور محاضرات الأساتذة أن نرجع إلى أهلنا بالأطلس قبل الامتحان بثلاثة أشهر لحفظ ماجمعناه واختصرناه، فكنا نطوف طول النهار بين ربوع التلال وضفاف السواقي والأنهار نتغنى بالنصوص والمحفوظات، ونملأ جنبات الحقول طربا بأقوال علماء السلف، لانعدل متعة في الدنيا بشيء من ذلك. متمثلين بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(إن في الدنيا جنة من لم يعرفها لم يعرف جنة الآخرة). ثم نخصص الأيام الأخيرة للمذاكرة والاستظهار، فنلتقي بمدينة أزرو،ونقضي ساعات النهار وطرفا من الليل في استظهار محفوظالمختصرات في مختلف العلوم، دون زيادة ولانقصان، فكانت الامتحانات تمر ولله الحمد في أحسن الظروف والأحوال.
وكنا قد عاهدنا الله أن لا نتشوف في زمن الطلب للحصول على أي منصب دنيوي، فامتنعنا من المشاركة في مباريات التوظيف حتى لاتشغلنا تلك الصوارف والعوائق عن إرواء غليلنا من موارد طلب العلم عللا ونهلا .
فبعد تخرجنا من جامعة المولى إسماعيل بمكناس، عزمت أنا وأخي عبد الحق يدير و عبد الفتاح القباج على الرحلة لاستكمال دراستنا في جامعة الأزهر بمصر أو الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وزرنا شيخنا تقي الدين الهلالي رحمه الله وكتب لكل واحد منا تزكية للالتحاق بالجامعة الإسلامية، ومن طريف ما وقع أن شيخنا تقي الدين كان يشترط إلى جانب سلامة الاعتقاد والتدين إعفاء اللحية دون تقصير، ولكونه كفيفا لمس لحية أحد الإخوة فوجدها قصيرة، فقال والله إنها لحية مقصوصة، فأجابه : والله ياشيخ ما قصصتها منذ شهر، فقال رحمه الله (إذن تب إلى الله و لاتعد). وكان شيخنا رحمه شديدا في ذلك ديانة وإخلاصا لما يعتقده واجبا شرعيا وسنة ماضية.
بخلاف ما كانت عليه دوائر المكر السعودية الوهابية، التي خربت عقول شباب الأمة، وكان همها في مجرد الأشكال والمظاهر دون اهتمام بتدين القلوب والمخابر . والخبر ما نرى اليوم من ركوع وخضوع للصهيونية العالمية لا ما كنا نسمع من حماية العقيدة وحفظ السنة !!
ولم ييسر الله من جهة الجامعات السعودية شيئا، لحكمة يعلمها الله تعالى. وكان ذلك وفقا لنصيحة شيخنا الدكتور أحمد الريسوني الذي استشرناه في الموضوع، فأنكر علينا ذلك وقال (لا أنصحكم بالذهاب، فالسعودية مقبرة الدعاة). فقدمنا الوثائق للحصول على منحة وزارة التعليم للدراسة بمصر، وتمت الموافقة عليها للدراسة بجامعة الأزهر، لكن حالت العراقيل الأمنية يومئذ دون سفرنا إلى مصر، حيث مُنعنا من الحصول على جواز السفر بسبب نشاطنا الإسلامي، وكان في ذلك خير والحمد لله. حيث التحقنا بقسم الدراسات العليا بجامعة محمد الخامس بالرباط، واجتزنا مباراة الدخول إلى دار الحديث الحسنية، والتقينا يومئذ بنخبة من أهل العلم الفضلاء كان من أجلهم وأبرزهم أخونا الدكتور توفيق الغلبزوري، وكان صاحب نكتة وطرافة وفصاحة، فكنا نستمتع بمداخلاته خلال المحاضرات وكأننا نستمع لشيخنا الدكتور محسن عبد الحميد المفكر واللغوي الفحل. ومن يومها كنا نسمي أخانا الدكتور توفيق الغلبزوري بالفحل الذي لايُجدع أنفه ولا يُكسر سنه.
وقد حصلنا على دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية وجامعة محمد الخامس بالرباط، ونفعنا الله بهما بالتتلمذ على يد ثلة من كبار علماء المغرب كان لهم أثر كبير على مسارنا العلمي منهم شيخنا الدكتور محمد يسف أستاذ الأجيال أمد الله في عمره، ومن جميل خصاله أنه كان محبا لطلاب العلم يسأل عن أحوالهم ويعطف عليهم، ومنهم أخونا الدكتور عبد الحق يدير، حيث كان يسألني عنه كثيرا ويهتم لحاله، وقد نفعنا الله بمحاضراته ودروسه في فقه السيرة النبوية التي كان يلقيها علينا بدار الحديث ارتجالا من حفظه، وهو من نوادر من لقيت في هذا الفن. وشيخنا الدكتور المحقق محمد الراوندي رحمه الله، الذي علمنا صناعة الحديث وانتفعنا بمحاضراته كثيرا في مناهج التخريج ومصنفات الحديث، وهو آية في معرفة المطبوع والمخطوط من التراث المغربي الأندلسي. مع طرائف ونوادر تفرد بها بين من عرفنا.
ثم شيخنا المحقق الأديب الدكتور نوري معمر رحمه الله، الذي كان شغوفا مغرما ببقي بن مخلد مؤسس مدرسة الحديث بالأندلس، وكرس حياته لخدمة تراثه، والبحث والاطلاع على نوادر أخباره ودقائق سيرته وحياته، وكان له شغف بكتب الأندلسيين يأتينا كل مرة بكتاب من تراثهم ونقرأ منه فصولا، وكان غالبا ما يتأبط كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني ويدخل قاعة الدرس وهو يلهث من جهد صعود السلم بدار الحديث ثم يتنفس الصعداء ويقول أحبوا هذا الكتاب أحبوا هذا الكتاب .
وبجامعة محمد الخامس كان هناك ثلة من طراز العلماء الكبار منهم شيخنا أستاذ القراءات القرآنية الدكتور التهامي الراجي رحمه الله، الذي كانت محاضراته متعة وتحفة ننتظرها بكل شغف. وشيخنا الدكتور اللغوي الأديب أحمد أبو زيد أستاذ علم البلاغة وجرجاني المغرب. والدكتور فاروق حمادة الذي كان آية في علوم الحديث لولا ما شان مسار حياته العلمية في السنين الأخيرة مع شرذمة من المنبطحين لصهاينة العرب ممن يسمون أنفسهم (حكماء المسلمين).
ثم شيخنا علامة المقاصد وشاطبي المغرب الدكتور أحمد الريسوني جزاه الله عنا خير الجزاء وجعل حظه من الجنان موفر الأجزاء، وقد نفعنا الله بمحاضراته، وسديد نصائحه وتوجيهاته في مسارنا العلمي والدعوي، ولولا سعيه في الدفاع عن كثير من طلاب العلم وحل مشكلاتهم مع المشرفين لكان تعبنا في رسائلنا وأطروحاتنا أثرا بعد عين. وكذا شيخنا العلامة الأديب الشاعر والفقيه المالكي الدكتور محمد الروكي حفظه الله الذي نفعنا الله به مع خلائق من طلبة العلم المغاربة والمشارقة.
ذلك جيل فريد من أعلام المغرب ممن تشد إليهم الرحال هيأهم الله لنا من حيث لم نحتسب، كانت لنا معهم ذكريات في رياض العلم وربوعه بالمغرب بعد أن مُنعنا من الرحلة إلى بلاد المشرق.
وبعد قرب انتهاء هذا المسار الجامعي يسر الله لأخينا عبد الحق يدير الالتحاق بجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، كما يسر الله لي الالتحاق بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وتمت مناقشتناللدكتوراه الدولة بعد ذلك بعد معاناة مع المشرف سامحه الله. وكان موضوع أخينا الدكتور عبد الحق يدير الذي نال به شهادة الدكتوراه عن (الصحابة ومصادر معرفتهم) بإشراف أستاذنا الدكتور فاروق حمادة هداه الله إلى سواء السبيل، وخلصه من مكر صهاينة العرب التآمرين على هذه الأمة.
وقد كان من عادتي أن أتفقد وأزور إخواني ورفقاء دربي في الطلب، مستأنسا بحديثهم ومستفيدا من مباحثتهم في مسائل العلم، لا سيما أخي الدكتور فريد الأنصاري رحمة الله عليه تترى، وأخي العلامة المحقق الزبير دحان، وأخي الدكتور الأثري توفيق الغلبزوري، وأخي الدكتور المحدث عبد الحق يدير، وهم من خيار من نفعني الله بصحبتهم زمنا طويلا.
وكنت كلما زرت بعضهم، أمتعض من المبالغة في تأنيهم في تحرير وإخراج بحوثهم العلمية مع ما أتاهم الله من قوة وقدرة على الكتابة والتأليف،على سنة المغاربة والأندلسيين في الإحجام إحجام المرتاب، وعدم الاستعجال في إخراج المصنفات قبل تقليب النظر، والتحقيق والتدقيق بعد الارتياب. عكس حال كثير من الإخوة المشارقة الذين كان يراهم شيخنا المحدث محمد الأمين بوخبزة في وفرة مصنفاتهم كحامل خبز إلى صاحب الفرن على عجل .
ومن طرائف ما حصل أنه بلغني أن أخانا الدكتور توفيق الغلبزوري بعد انتقل إلى مدينة تطوان، تغير حاله ومال مع القوم في عوائدهم في طلب الراحة والتأخر في النوم والاستيقاظ، والتثاقل في الأعمال بسبب تأثير المناخ، وقد كان الرجل من قبل بالقنيطرة شعلة في الحماس والاشتغال بالدرس والمباحثة والتأليف، حيث كنا نلتقي يوميا بعد الفجر نتذاكر تراث أهل الحديث وطرائف العلماء وسيرهم،وكان كثيرا ما يستقبلني صائحا بقول الفضل بن دكين : (ياعُويمش تعالى أغربل لك أحاديثك، خذ هذا ودع هذا، هذا ناسخ وهذا منسوخ) .
فسافرت إليه واتصلت به في الطريق قبل الوصول بساعة، فأجابني على الهاتف الأرضي سائلا ومستفهما من؟! فقلت أنا ابن جلا وطلاع الثنايا، متى أضع السماعة تعرفني، ويحك لقد أثر ت بكدعة أهل تطوان، وأصابك الوهن من مس النعيم، فوهى عزمك، ورق عظمك، ولان جلدك، فهيهات هيهات يا أبا خيرة !! بعد ساعة أكون عندك، والخبر ما ترى لا ما تسمع.
فلما دخلت منزله وجدت على مكتبه أكواما من الأوراق ورزما من الكاغد من المادة العلمية التي جمعها لتحرير أطروحة الدكتوراه قد طال بها العهد، فلما تأملتها وتفحصت قيمتها قلت ماذا تنتظر لإنهاء هذه الرسالة وتقديمها للمناقشة، وأنت قد بلغت هذا المبلغ، فقال والله إن بيني وبين ذلك خرط القتاد وصعود السماء. فقلت والله لتناقشن أطروحتك في مطلع السنة المقبلة إن شاء الله. فقال كيف ذلك؟!! وهذا الركام من الجذاذات لم أحرر منه شيئا.
فأخذت تلك الرزم غصبا عنه، وحملتها معي ﻷدفعها إلى صاحب مكتبة لينسخها ويحيلها إلى نصوص حية على الحاسوب حتى يسهل تحريرها، وأخونا توفيق يناشدني ويتوسل إلي ألا أفعل من شدة الوسواس الخناس والخوف عليها أن تضيع، فلم أجبه لذلك، وكان لايعترض علي في شيء مما أنصحه به.
وأخذت عليه عهدا أن يلتحق بي بمدينة أزرو صيفا كي يتفرغ لتحرير أطروحته، وذلك ما حصل، حيث أقمنا بالأطلس مدة ثلاثة أشهر في (رباط علمي) أشبه بالحجر لايُسمح فيه بالخروج سوى لفترة قصيرة بعد صلاة الفجر وقبيل المغرب، ولما اشتد به الحنين إلى أرض الشمال، طلب مني أن يسافر لأيام يسيرة ثم يعود، فقلت له (لا رحمني الله إن رحمتك، وهل أنت حر الآن حتى تتصرف كما يحلو لك؟!، أنت في حُكم العبد المُكاتب، لن تسافر حتى تُنهي عملك). فلم يرجع خلال شهر شتنبر سوى بعد أن انتهى من تحرير أطروحته وتم تقديمها للطباعة.
وخلال تلك الرحلة تفقدنا حال أخينا عبد الحق يدير (ليث الأطلس) رحمه الله، فوجدنا حاله كحال صاحبنا الحزمي الأندلسي آية في التسويف والتريث والتأني، فآلينا عليه أن يتفرغ للانتهاء من تحرير أطروحته، وكان رحمه الله رجلا طيعا متواضعا لايتأفف من لوم وعتب الإخوان، فضربنا عليه حجرا علميا بصك مكتوب كانت نسخة منه عند أخينا توفيق، وبعد انتهائه من طباعة الأطروحة وإيداعها للمناقشة أرسلنا إليه صك رفع الحجر عبر الفاكس مدبج بيراع الشيخ توفيق.
وقد كان الدكتور عبد الحق يدير رحمه آية في الصبر والمثابرة، لم يكن يُشغله شيء عن التدريس والدعوة ونشر العلم ونفع طلابه، والخطابة بمسجد حي السعادة بآزرو، ومن آثاره العلمية المنشورة (الصحابة ومصادر معرفتهم – أثر الحديث في اختلاف الفقهاء – من مظاهر تقريب الحديث من جمهور المسلمين)، مع دروس ومحاضرات مرئية سجلها لبرنامج (الدروس الحديثية) بقناة السادسة.
وقد ظل رحمه الله محتسبا في هذا الطريق لايلتفت إلى شيء من حطام الدنيا في سائر عمله، وقد زرته بمقر المجلس العلمي بمدينة إفران قبيل الحجر الصحي، فاستثرنا ذكريات السنين الماضية والأيام الخوالي، وحدثني عن برنامج عمله، فألفيته غاية في الطموح وعلو الهمة في العمل للإسلام، رغم ما كان يعانيه رحمه الله من متاعب صحية لم يذكر لي منها شيئا، وما عرفت ذلك سوى يوم موته، وقد كان قبل مرضه بأيام معتكفا في مقر المجلس العلمي يُسابق الزمن كما عهدته، ويُجهد نفسه في إنهاء تصحيح أوراق الامتحانات الجامعية حتى يُسلم نقط الطلاب في موعدها المحدد، حتى أضناه ذلك ودخل في وعكة صحية مكث إثرها بالمستشفى الإقليمي بأزرو مدة خمسة عشر يوما ثم توفاه الله.
وقد حدثني أبناؤه أن الله قبض روحه ساجدا بالموضع الذي كان يصلي فيه بغرفته بالمستشفى، وقد نظرت إلى وجهه قبيل الجنازة، فلمحت وجها مشرقا منيرا ببشائر أهل الإيمان، رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم،مسلمين موحدين لا مبدلين ولامغيرين، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وذاك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصـــــال شلــــــــو ممـــزع
عسى الله أن يجعل في شبابنا من تعلو همته ليكون خير خلف لمن قد مضى من أهل العلم.