موظف بتعويض متدرب.. (التوظيف بالتعاقد)
هوية بريس – عبد العلي أوجاع
جلست على الأريكة، أرتشف من القهوة رشفات أحتسب بها مرارة الانتظار، وأنا أستحضر سيطرة الصمت التي خيمت على النفوس وكأنهم في مأتم واتسابي، هذا ينظر ويتجاوزالرد أو يرسل كفا على شكل بصمة مساندة فارغة من كل معنى، وذاك يجيب إجابة لا تغني من جوع، “صبرا آل التعاقد فإن مثواكم الجنة…”، وآخر أبو نواس زمانه، غير مبال وكأنه بعيد عن هذه الطينة، ماكث في مكانه، في حيز الخوف، جَوُّه فوبيا ارتعاش وأنا نرجسية تنتظر الاحتساء من دمك وهي تتذوق لذة الفوز بكل عفوية وانتشاء، جاعلة من تضحيتك أقداحا تستقي فيها كل ما يحمله التوظيف بموجب عقدة من جمالية، لتترك لك بنود الطرد، وفضاء صحراويا قاحلا….
تنهدت وكلي حيرة واضطراب، وأناملي تخط على جريدة جعلت لنا عنوانا بين ثناياها “حزب المتعاقدين”:
إلى متى؟ إلى متى هذا الخذلان؟ هذا الضياع المضاجع….!!!
تعويض معطوب، وحق مسلوب، وستر المكشوف بستائر الباطل. الكل جلوس يفتشون عن الزمن المجيء، وماذا بعد هذا الخمول؟ هذا اللاوعي، اللاشعور…
خطر ببالي طارق الذي عاش بين ثنايا بعض الروايات التي كنت قد قرأتها منذ زمن ولى، ساخطا على كل ما يحمله الوطن الخرافي من معنى، مشخصا العلاقة معه غضبا واستنكارا يفيض بحمولة لم يعد للصبر فيها من مكان:
” خمس وثلاثون سنة من العمر، هذا هو الرصيد الوحيد الذي أملكه في الحياة. حياة من الحرمان والمعاناة. سنوات طويلة من النضال الجامعي والاعتقال والتعذيب من أجل قضايا غادرتنا ولم يعد لها وجود إلا في مسلسل الذكريات وحقائب الأمس، ومن أجل أحلام تلاشت في هذا الوطن الذي لم يعد يشبهنا في شيء”.
وتذكرت عزيز الذي عاش ثورة نفسية دفينة، بَنَتْ حاجزا بينه وبين أحلامه، وكاد أن يتخلى عن محبوبته في مقهى لاكوميدي…، لولا مشيئة قدر الحب الذي جعله يتخلى عن مبادئ الوطن، ويمسك بيد محبوبته كونها الوطن الذي لم يتخلى عنه:
“حبيبتي الغالية أراني تائها أتسكع بين دروب الحيرة والشك، بات العالم مخيفا بالنسبة لي، فهو يكتسيني بملابسه الحزينة، لا أمل لي على أرضه، أسير وفق ما يريد، وليس وفق ما أردت أنا، لايمكنني أن أكذب عليك، كيف لي أن أعاهدك بالزواج وأتبادل معك حقن الحب، وأن أكون مسؤولا عنك؟؟. كيف لي أن أجسد لك معنى العطاء، وأن أرسم على نوافذك المتعبة صورا بهية وأجبر كسرك بضمادة كلامي لأخبرك أن خلف كل زجاجة متسخة ربيع فاتن؟؟، كيف لي أن أحمل في صدري أكاليل فرح وبهجة وأغرسها في قلبك؟؟، وأنا لم أحرر ذاتي من شبح هذا الوطن الكئيب الذي حطم آمال أبناء الشعب.
في هذا الوطن بالذات إذا سألتني عن مهنتي أقول لك “طالب جامعي” تصفعني الحياة بتجاربها لأقع ضحية بين جدرانها التي تحد من حرية الفكر وتخضعني لقانونها الكافر بمنطق العدل، وتجعلني أستنشق من جوها العليل الذي لا يعترف إلا بذلك “الهو” الذي يسطو على أحلام أبناء هذا الوطن بغية أن أعيش جاثيا على أناملي لا فكرة لدي بما قد يحمله الغد من أخبار….
كيف لي أن أجعل أحلامك حقيقة، أن أطمئنك بأنني قادر على أن أهب لك ما تريدين وأنا ما زلت ذلك “الطالب الجامعي” الذي ينتظر من مسؤولي التعليم وضع حل لمسيرته المهزلية التي تحمل معها طغيان الشواهد والتجارب والكفاءات، أولئك الذين جمدوا آمال أبناء الشعب؟؟
لا أريد أن أكذب على أبنائي كما كذبت على نفسي، وأزرع فيهم رمز الهوية ودستور القيم…، ليسألوني بعد أن يمر الزمن أهذا هو الوطن الذي حدثنا عنه يـــــــــــا أبي….”.
كنت أنظر إلى طارق وإلى عزيز، وأنا أقول لماذا هذا السخط؟ وهذه الخيبات؟ وأستحضر في ذهني، خمول البعض منا وعجزهم عن قول كلمة الحق، أو بالأحرى تخوفهم من ظل الوطن، ومن مراسلات الأكاديمية التي تشن حربها على حضورالغياب، وذاك الأستاذ التي يهدد بعض المتدربين كأنهم جوعى تاهوا عن الطريق ولم يجدوا رغيفا يسد جوعهم أو ماء يروي عطشهم، والتجؤوا إليه…، منهم من يطمع في إقامة علاقة ود وإخاء، ومنهم من أقام علاقة حب وارتواء…، لكن ماذا بعد، اضطربت أفكاري وانفجر صمتي متحدثا بآهات حزينة، وضعت القهوة على الطاولة ثم قمت من مكاني وذهني مشغول بترديد بعض الكلمات:
“من حظ هذه الحكومة أن شعبها لا يفكر”.