نحن و”العربية” توق إلى المصالحة
هوية بريس – عبد الكريم الحاج الطاهر
اللغة العربية في أزمة، والأزمة ضيق وشدة، ولسان حالها ينطق بكلام جلي مقطوع به ويقول : إنها تمر بأحلك أيامها، وتكابد ظرفا عصيبا شديد الهول، كبير الفزع، فإلى من الفزع وإلى من اللجوء واللياذ ? أإلى عدو غاشم يتجهمها ? أم إلى قريب ملكه الله أمرها؟
فأما المنطق –وباستثناء بصيص من النور انبلج من غياهب العتمة -فإنه يقضي بعدم أهلية العدو مما يحتم إقصاءه – وبالبداهة – من حلبة السباق نحو المناصرة ومد يد العون و المساعدة ، ألم يحشد كل قواه وتحامل عليها وسامها سوء العذاب ؟ وهذا معلوم من التاريخ بالضرورة، وعليه يبقــى الرهان – إذن -على القريب، فكيف كان تعاطيه مع لغة الضاد ?
أولا: نحن والعربية :
إنه، وباستقرائنا للواقع اللغوي المعيش، نخلص إلى معطى لا تخطئه العين العادية ناهيك عن الفاحصة، ونستشف بوضوح ” جفاء ” بين العربية وأبنائها، نما بسرعة كالفطر، واستشرى بكيفية لم يسبق لها مثيل، هذا الجفاء تفاقم فارتقى إلى مستوى “الطلاق”، طلاق بغيض حُل فيه ميثاق الارتباط، ورُفع فيه قيد التلاحم بينهما قسرا وبالقهر والإكراه، أما إجراءاته الرسمية فقد تمت تحت أنظار الدوائر العليا وبمباركتها، وإذا أردنا الرصد والتقصي لن نجد عنتا في الاهتداء إلى عدة مظاهر تؤثث فضاءه، وكما تدل إليه، فهي شيات بارزة تدلل عليه نجملها كما يلي :
أ-خلل على مستوى الأجرأة :
فعلى مستوى ” الترسانة القانونية “، ما يلفت نظر المهتمين هوصدور قوانين بالجملة تقضي-مبدئيا- برسمية اللغة العربية وبإلزامية تفعيل ذلك على كل المستويات، لكن يعوزها التنفيذ، مما يؤكد، وبالملموس، أن هناك خلل ما على مستوى الأجرأة، فبتحريض من لوبي متحكم، و غياب إرادة حقيقية لتنزيلها تبقى بلا أثريذكر ! أما جثتها فهي على مرأعوام في” ثلاجة ” الحكومة، يقول الدكتور فؤاد بوعلي رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة : ” المشكلة ليست في القانون لأن الترسانة القانونية في المغرب مليئة بالنصوص المطالبة باحترام رسمية العربية وتميزها، لكن الإشكال في غياب إرادة حقيقية لتنزيل القوانين…” (جريدة السبيل الورقية العدد 298حوار مع د. فؤاد بوعلي، المحاور: عبد الصمد إيشن)، وكمثال صارخ على ذلك : الدستور (أسمى قانون للمملكة)، وقد نصت على ذلك أول نسخة منه عام 1962وأقرته المراجعات الدستورية المتعاقبة لسنوات 1965-1970-1972-1992-1996. ومما جاء فيه : ” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية” . إنه نص ذو حمولة لغوية واضحة، صريح المبنى، وصحيح أنه أخاذ لكنه فضفاض، خاوي الوفاض، نص براق إنما هوحبرعلى أوراق، وهذه –كما يقول عالم الاجتماع والاقتصاد السويدي ” جنارميردال ” من مميزات الدولة الرخوة (الهشة) .
وما قيل على مستوى “الترسانة القانونية ” ينسحب– وبالكامل- على المستوى “الأكاديمي/المؤسساتي” ، فغياب مؤسسات ” حكومية ” تعنى باللغة العربية وتدافع عنها أو بالأحرى ” تغييبها ” يعد جريمة في حقها (أي في حق اللغة العربية)، والمثال المسترعي للانتباه في هذا الإطار: ” أكاديمية محمد السادس للغة العربية ” التي تم تذويبها في المجلس الوطني للغات والثقافة، كطريقة سلسة تمهد للإجهاز عليها نهائيا، ومما يندى له الجبين أنه، وفي مقابل هذا التقاعس المسجل “محليا”، تأتي المبادرة من ” تل أبيب العِـبْـرِية” وبالضبط من حيفا حيث أقيم آخرمجمع للغة العربية في سنة 2009، وهذا من”المفارقة الغريبة والسخرية القاتلة” كما يقول أحد الكتاب.
ب-وضع لغوي مرتبك:
هذه الأجواء الملوًثة بأدخنة الالتفاف على القوانين المرسمة للغة الضاد، وعلى المؤسسات المعنية بالدفاع عنها كان بديهيا أن ترخي بظلالها على المشهد اللغوي العام، لاسيما في جانبه المتعلق بشريحة عريضة من أبناء الأمة تشكل –ولاشك- رقما مهما في هاته المعادلة، وعليه فقد برزبقوة جيل جنح إلى سلوكات متغولة، مشينة تُسِف حتى تبعث على الغثيان، وتحمل على السخرية والرثاء، ودون عَبْء لما سيتلقفه من مضاعفات خطيرة على مستوى “الاستلاب الهوياتي ” مضى سادرا في ” غيه اللغوي “، إن صح التعبير، فقد أعلن للعيان ” قطيعة “مع لغته الأم أو ” ثورة ” شق بها طريقا مختلفا جب به كل الأواصر، وهكذا ” غار عليها وثار، رماها بالحصى والكلام، أرادها أن تموت، أوصد باب بيته دونها، طردها شر طِرْدة…” ، مما أفضى به إلى وضع لغوي مرتبك، من أهم معالمه :
-كراهية غيرمسبوقة للغة العربية .
-احتقارها .
-استخفافها/استفزازها.
-الاستخفاف بها.
-عدم الانتصارلها أمام تمادي العدو وجبروته.
-جهل صارخ بها : كيف لا وقد غرق فيه من مشاش رأسه إلى أخمص قدمه، ومن ثم أضحى هذا الجيل يعاني – عند التعاطي معها قراءة وكتابة – من كل أشكال الضعف اللغوي..، من الغثاثة، الركاكة، الرطانة، مرورا باللحن والهجانة، ، وكما قال مرة ” جون ماري لوكليزيو ” ل ” الطاهر بن جلون ” : ” فقد أضحى لديه من باب المعجزات اختتام جملة “، وفي أحسن الأحوال قد لا يتجاوز درجة الاستمساك بخيوط حائلة منها، ومن ثم تضحى المسافة بينهما (بين العربية وأبنائها) سائرة في الامتداد والاتساع وقد نضطر- لقياسها –إلى استعمال ” الوحدات الفلكية “.
-عدم اعتمادها والاعتداد بها على مستوى سوق الشغل، فقد فقدت بريقها ولم تعد شرطا يغري أرباب المؤسسات والإدارات والمقاولات للاستجابة لطالب الشغل من الشباب العاطل.
-غيابها على مستوى الخطاب سواء الرسمي أو الروتيني اليومي ، فباستثناء الخطابات الملكية، وبعض الأحيان بعض الخطابات المبثوثة على مستوى غرفتي البرلمان، والخطب المنبرية للجمعة ولصلاة العيدين، فقد تم هجرها جملة وتفصيلا داخل البيت، في الشارع، في الإدارة، في الفضاءات العامة، في واجهة المحلات، و…، وإن حضرت فبشكل باهت محتشم، لا يسمن ولا يغني من جوع، في حين نسجل اكتساحا من طرف ” لغة ” عربية عبارة عن بقايا صورللغة كان لها، في يوم من الأيام، مجد تليد، عربية مهترئة ” مقددة “، مقطعة إربا إربا كما تقول الكاتبة الكويتية (حياة إبراهيم الياقوت)، لغة عبارة عن طوفان من الرداءة والبذاءة ، حسب تعبير الناشر والمترجم السوري (سامح خلف)، ” لغة مخرومة “عبارة عن فسيفساء غير منسجم أو” خليط ” من جميع اللغات والدوارج لا رابط بينها، مسخ مطموس المعالم، لالون له، نتن وبلا طعم، وهذا ما أسماه، وعلى التوالي، السيميائي والمترجم اللغوي المغربي(سعيد بنكراد): ” التلوث اللغوي” أو” العري اللغوي “، وفي هذا السياق وتكريسا لنفس المعنى يقول (أخ العرب عبد الرحيم) : ” لقد نفق سوق تداول اللغة العربية بالمغرب المعاصر، وبارت صناعتها وتجارتها (…)، إن الحرف العربي في المغرب تدنس بعامية لا أخلاقية، لا تنتمي إلى لغتنا ولا إلى ديننا، وأصبح الخطأ والغلط اللغوي تحررا من قيد وسلطة النحو والقواعد، وثورة مباركة على القهر والاستبداد اللغوي والمعنوي ” (اللغة العربية بالمغرب بين لغة الهوية وهوية اللغة : مجلة علوم التربية دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد58 يناير 2014)
هذا غيض من فيض، جزء من كل، وهي نماذج اقتطفناها من المشهد اللغوي العام، وهي ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي يمكن أن يسجلها المهتمون بالشأن اللغوي، ووراءها حشود من مثلها كثيرة، وهي كفيلة باختزال مجموعة من التجليات لذلك ” الطلاق البغيض ” الذي كان من تداعياته تلك ” المزايلة التاريخية ” المشؤومة بين العربية من جهة وأبنائها من جهة ثانية .
وإجمالا نقول إن هذا الطلاق البغيض بين اللغة العربية وأبنائها، كان بحق أثقل عبء أنقض ظهرها، فانقضت وتقصمت، أما العبارة الإنجيلية والتي تقول : ” لا كرامة لنبي في وطنه “، فقد باتت تنطبق عليها، بل وأضحت تمارس عليها حصارا من كل صوب وحدب، علما أن ” الحصارهو شكل من أشكال الحرب منخفضة الشدة على أساس الضغط المستمر “، وها هي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تكابد غربة بينهم، وهذه طامة كبرى تربو في خطورتها على عدوان التتار، أتباع ” الياسك “.
ثانيا : تـوق إلى المصالحة :
والآن، وفي ظل هذا الانهياراللغوي -على حد تعبيرالأكاديمي والكاتب التونسي الباحث في مجال اللسانيات واللغة ” عبدالسلام المسدي “-، والذي يمتد كما الأخطبوط على طول وعرض المشهد اللغوي، تتناسل أمامنا سيول من التساؤلات/الهواجس، جاشت بها الصدور، بل واستحالت إلى كوابيس أرقت ليالينا نطرحها كالتالي : هل ضاعت العربية الفصحى وسط هذا الخليط الطارئ من اللغات الزاحفة وعليه فلا أمل في أي إقلاع ? هل أقحل البلد ممن يجدد للناس لغتهم الأولى، وممن يرفع صوته مذكرا بحقيقتها ?هل فقدنا الرجاء في إعادة البناء ? هل هناك بصيص من أمل لرتق ما انفتق ? هل هناك إمكانية لجسر الهوة ومد الجسوربين العربية والجمهور? وبتعبير آخر : هل هناك احتمال لتوجيه البوصلة نحو ” مصالحة ” لن تكون إلا تاريخية، وبكل المقاييس، بين اللغة العربية وأبنائها من هذا الجيل ?
أ-بين الآلام و…الآلام، .. آمال..
في عز هذه الأزمة، وفي ظل هذا الوضع المؤوف (الذي يعاني من كل الآفات)، وسط هذا الانهيارالذي يموج بكل أنواع التردي اللغوي، ومن خلال هذه الآلام، من خلال هاته العتمة، بدأت –بالفعل-تنسل بصائص من النورمؤذنة بانبلاج فجر جديد في حياة لغتنا العربية …، إنها – وبتعبير الدكتورموسى الشامي-“هبات ثورية”…، تحركت، حملت بيارقها، و، محملة بكل الآمال، سيقت لنا من صلب المجتمع المدني، تواقة إلى المصالحة مع لغتها، يحدوها شوق عارم لتكريسها، و هي، في جوهرها، إما جمعيات غير حكومية أو فعاليات نشطة، من العيار الثقيل، ويبقى الخيط الناظم بينها : حب العربية وعشقها، الإيمان بها، الذود عن حياضها وحوزتها، نذكر منها :
* الراحل الدكتور إدريس الكتاني، شارك بفعالية في تأسيس رابطة علماء المغرب بالرباط عام 1961م، ولعب دورا فعالا في مؤتمراتها، حيث انبرى للرد على الأعداء في معركة التعليم والتعريب ومعارضة سياسة التغريب، وازدواجية لغة التعليم …
*الدكتور عبد العلي الودغيري : أكاديمي، كاتب ولغوي مغربي .
*الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري: ” جمعية اللسانيات بالمغرب “، أستاذ باحث في اللسانيات العربية المقارنة .
*الدكتور عبد الصمد بلكبير ..، من أكبر المدافعين عن لغة الضاد، ومن أكبر المتحمسين لإنشاء ” مجمع لغوي مغربي ” معتبرا إياه حقا مشروعا وديموقراطيا.
*” الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية “: الدكتور فؤاد بوعلي، لساني مغربي، رئيس مجلة ” واتا ” للترجمة واللغات .
*” الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية ” : الدكتور موسى الشامي، لساني مغربي، يقول : ” كنت ألاحظ هجوما شرسا على اللغة العربية الفصيحة من طرف بعض الناس الذين يجهلونها، فكان من الطبيعي أن أظهر محبتي للغة العربية الفصيحة وتعلقي بها والدفاع عنها، وهكذا ظهرت إلى حيز الوجود (الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية )، (مقتطف من حوارمع الميادين نت، أجرى الحوار: الشاعر ميلود لقاح من المغرب بتاريخ : 30آب/غشت2019).
ب-بين القطيعة و المصالحة، نضال وملحمة :
إلى جانب هذه الفعاليات، هناك أسماء أخرى نسجت على نفس المنوال، سارت على هذا النهج وبنفس الوتيرة، آلت على نفسها الدفاع عن العربية، وبما أن المقام لا يتسع لذكرها، فمما لا ينبغي إغفاله البتة هوشوقها إلى فجر جديد بعد ليل مظلم بهيم، فجرتفيض منه الأدمع، وكذا توقها إلى المصالحة بعد هذه القطيعة، فقد آمنت بهذه القضية – قضية اللغة – وأيقنت أنها، وكما قال سماح إدريس : ” تحتاج إلى مناضلين، شأن أي قضية مهمة ومصيرية، مناضلين يحملون هم تطويرها ونشرها ومدها بعناصر الحياة “، وهنا نقف لحظة للتأمل، لحظة من أجل المكاشفة، لنضع النقط على الحروف ، وكفانا من سياسة النعامة، كفانا من دفن الرؤوس في الرمال، فالمناضل، هنا، وفي هذه المحطة بالذات، ينبغي أن تكون له مواصفات معينة، لا بد له من رؤية طليعية، ليس في قاموسها شيئا اسمه التخاذل، ومن ثم نتجاسر لنقول بأن المناضل ، ولتصحيح المسار، ينبغي أن يرفع عدة لاءات ولا مندوحة له عنها: لا للتقاعس، لا للتهاون، لا للتقصير، ” عليه أن يهيء نفسه لشظف العيش، وللأواء الحياة، أن يأتي بصوت قد طلق الأنين، وبقلب قد طلق الحنين، يجيء طلقة، صفعة لكل ضميرخادر، يجيء عاصفا ما في صدره، يجيء صرخة ثائر، ينبغي أن يكون رجلا ” حربيا ” وإن بزي مدني، يرابط في ممر ضيق ملغم ولاحب، يرابط بين الخيانة والأمانة، المناضل من ينافح عن قضية، ويستميت في ذلك، يعطي ولا يأخذ يعزم، ولا يغنم، لا يأبه للنتائج والمآلات، فهي من تدبير فاطر الأرض والسماوات، فما يهمه هو الثبات على المبدأ وكفى، فقد كتب عليه أن تكون حياته موكبا موصولا من المسؤوليات الجسام، وهو مجرد حلقة في سلسلة هذا النضال قد تكون الأولى، وقد تكون الثانية، أو الوسطى أو الأخيرة، ليس من شأنه النصر والتمكين، فذلك من تدبير الحكيم العليم، فقد يأتي وقد لا يأتي، ولكن ثباته على المبدأ هو الركن العظيم الذي لا ينبغي أن يتحلحل، ولا ينبغي أن يتزحزح، أو يزول، فهوحصن حصين، صخرة شماء تتحطم دونها مكائد الأعداء، وهذا مايسمى في أدبيات النضال والمقاومة ب ” الاستقامة “، و للمناضل ” اللغوي ” ملحمة وكله حماس ليزفها إلى لغته الأم، وإن كان قد طال انتظارها لكنها قادمة، فدمه اعتراض لا يلتوي…لا يتقهقر، لا يتوارى وراء الضباب، والمناضل كالشمعة، تحترق، تكتوي بالنار ليسعد الآخرون، ونحن على غرارها نكتوي مع إصرار، لتنشط العربية من عقالها، وتنطلق من جديد وما بها ” قِـلبة ” أوعلة أو أحد الأضرار، والمشوار شاق وطويل ولا مواربة في ذلك، ولكن مهما طال، فبالنضال وعزم الرجال لا بد للسفينة من الرسووالاستقرار، وآنذاك نطوي صفحة المآسي، ونضع حدا للقطيعة، ونحتفل و نحتفي ب ” المصالحة “، ومن الآن إلى ذلك الأوان، لا يسعنا إلا أن نردد مع الشاعر (قراد بن أجدع الكلبي) :
فإن يك صدر هذا اليوم ولــى * * * * * * فإن غدا لناظـــــره لقريب