نماذج علمائيّة ملهمة مجاهد بن جبر “إمام التفسير وشيخ القراء”

نماذج علمائيّة ملهمة مجاهد بن جبر “إمام التفسير وشيخ القراء”
هوية بريس – د. علي محمد الصلابي
هو أحد أعلام التابعين وسادة المفسرين وأئمة القرّاء، جمع بين سعة العلم وعلوّ القدر وصدق العبادة وإخلاص النية، تخرّج من مدرسة ابن عباس رضي الله عنهما، فكان تلميذه الأقرب، ووريث علمه، حتى قال فيه العلماء: “من أراد التفسير حقًّا، فعليه بمجاهد”. شهد له الأئمة بالريادة في تفسير القرآن، والتبحّر في علومه، وكان مرجعًا لأهل زمانه، ومصدرًا للفهم السليم لكتاب الله، حتى قيل: “كان إذا تكلّم خرج من فيه اللؤلؤ”.
اسمه ونسبه ولقبه:
مجاهد بن جبر، وقيل: بن جبير مولى عبد الله بن السائب القارئ كنيته أبو الحجاج وقد قيل أبو محمد، كان مولده سنة إحدى وعشرين للهجرة.
علمه ومكانته:
نشأ مجاهد (رضي الله عنه) في بيئة علمية، ولازم الصحابي الجليل عبد الله بن عباس طويلًا، حتى قال: “عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، أقفه عند كل آية، أسأله فيم نزلت وكيف كانت”، وكان ابن عباس يثق بعلمه، ومن خلال هذه الملازمة، صار مجاهد مرجعًا في التفسير، حتى قال سفيان الثوري: “خذوا التفسير عن أربعة: مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك”، وقال قتادة: “أعلم من بقي بالقرآن: مجاهد، وقال خصيف: كان مجاهد أعلمهم بالتفسير”، وقد روى مجاهد عن عدد من الصحابة، منهم: (ابن عباس، عائشة، أبو هريرة، سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو، جابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري وغيرهم) رضي الله عنهم أجمعين، كما أخذ عنه كثير من العلماء والقراء، من أبرزهم: ابن كثير الداري، أبو عمرو بن العلاء، الأعمش، طاوس، عكرمة، عطاء، قتادة، منصور بن المعتمر، أيوب السختياني، وسليمان الأحول. وكان معروفاً عنه أنه شديد التواضع، حتى وصفه الأعمش بقوله: “كان كأنه حمال، فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ”، أي أن مظهره كان بسيطًا، لكن علمه غزير وبليغ، وكان من أبرز صفاته الإخلاص، قال سلمة بن كهيل: “ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله إلا عطاء، ومجاهد، وطاوس”، وقد روى عن نفسه أنه بدأ طلب العلم دون نية خالصة، ثم رزقه الله النية (سير أعلام النبلاء، الذهبي، ص450، ج4 بتصرف).
ولا شك أن ملازمة مجاهد لحبر الأمة وترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس لها دور كبير في صقل شخصيته وتكوينه العلمي، مما نتج عنه تَبَوُّؤ مجاهد مكانة عظيمة بين مفسري التابعين، قال خصيف: “كان مجاهد أعلمهم بالتفسير”، وقال قتادة: “أعلم من بقي بالتفسير مجاهد” وقد أثنى عليه المتقدمون والمتأخرون، فقال سفيان الثوري: “إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به” ، ووصفه ابن تيمية بأنه آية في التفسير، فقال: “ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير، يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره”، والناظر في تفسيره يرى مصداق ذلك، فقد كان (رحمه اللَّه) ذا نظر ثاقب، واجتهاد رصين، ودقة في إبراز المعاني، واستنباط الدقائق، وتوسع في التفسير، ما لا تجده عند كثير من أقرانه، والتي تشهد بعلو كعبه في التفسير، وتميزه في التأويل، ولا شك أن لتلك المكانة التي بلغها مجاهد في التفسير أسبابًا وعوامل عديدة، لعل من أبرزها:
– صحبته لابن عباس -رضي اللَّه عنهما- وطول ملازمته له: حتى كان أخص تلاميذه به، لا سيما في كونه عرض القرآن عليه كاملًا قراءة وتفسيرًا عدة مرات، عرض سؤال وتفهم.
– تفرغه للتفسير النظري: إذ تخصص فيه واستفرغ جهده، ولم يشتغل بغيره كما اشتغل به، وفي ذلك يقول: “استفرغ علمي القرآن”، بل إنه لم يشتغل كثيرًا برواية تفسير غيره، حتى أقرب العلماء إليه، فقد كان من أقل تلاميذ ابن عباس رواية عنه مع أنه من أكثرهم أخذًا عنه.
– توسعه في الاجتهاد، والاستنباط: فقد استفاد بذلك من شيخه ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، وتميز عن أقرانه فيه، فكان من أكثرهم إعمالًا للرأي في التفسير، ومن أميزهم في بيان المشكل منه.
– عناية تلاميذه بنقل تفسيره ونشر تراثه وروايته لمن بعده، ويأتي على رأسهم عبد اللَّه بن أبي نجيح، الذي روى أغلب تفسيره.” (موسوعة التفسير المأثور، م 1، ص295).
ولم يقتصر مجاهد (رضي الله عنه) على الأخذ من ابن عباس بل أخذ أيضاً عن طائفة من الأولين والذين أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعدون من الأساتذة له إلى جانب شيخه ابن عباس، وكان مجاهداً شغوفاً بالعلم شديد الرغبة في تحصيله والوقوف على دقائقه، مما حدا به إلى أن يلتمسه حيثما كان، ويتتبعه في كل مكان.
حتى أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما كان يخدمه توقيراً وإجلالاً للعلم في شخصه فقد كان مجاهد في علم التفسير وافراً، ومعرفته به متفردة وفهمه فيه نافذاً، وكان يولي للتفسير عناية بالغة وتقدم القول أنه كان يسأل ابن عباس عن معاني القرآن آيه آية، ويكتب ما يسمع منه في ألواح، وما كان مجاهد يألو جهداً ولا يدع سانحة إلا انتهزها في سبيل الوقوف على معاني القرآن، فقد روي عنه قوله: “لو أعلم من يفسر لي: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم) لضربت إليه أكباد الإبل”، وكان مجاهد يقول: ” ما من آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً” (مجاهد بن جبر ومنهجه في التفسير، الحبر الدائم، ص8 بتصرف).
وقد أجمع معاصروه على مكانته العالية في معرفته بتفسير كتاب الله، حتى روي القول عن بعضهم: “إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به”؛ وهذا ما دفع الإمام الذهبي أن يقول في آخر ترجمة مجاهد: “أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به”، ويكفي لبيان مكانته ما ذكرناه من اعتماد الإمام البخاري على رواية مجاهد في كتاب التفسير من كتابه “الجامع الصحيح”، وكذلك رواية أصحاب الكتب الستة عنه في كتبهم (مجاهد بن جبر ومكانته العالية في التفسير، إسلام ويب، رقم 21816بتصرف).
قالوا عن مجاهد (رضي الله عنه):
- سئل أبو زرعة الرازي عن مُجاهِد، فقال: مكيٌّ ثقةٌ.
- قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله إلا هؤلاء الثلاثة: عطاء بن أبي رباح، وطاوس بن كيسان، ومُجاهِد بن جَبْرٍ.
- قال قتادة بن دعامة: إن أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهريُّ، وأعلم من بقي بالقرآن مُجاهِد، يعني التفسير.
- قال عبد الملك بن جريجٍ: لأن أكون سمعت من مُجاهِد، فأقول: سمعت مُجاهِدًا، أحب إليَّ من أهلي ومالي (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 57 صـ33).
- قال الأعمش: كان مُجاهِد كأنه حمالٌ، فإذا نطق خرج مِن فِيهِ اللؤلؤُ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 4 صـ 453).
- قال يحيى بن سعيدٍ القطان: كان مُجاهِد فقيهًا عالمًا ثقةً، كثير الحديث؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 6 صـ 20).
توفي رحمه الله سنة 722م/104ه، في مكة المكرمة.
المراجع:
- سير أعلام النبلاء، الذهبي.
- موسوعة التفسير المأثور، جامع الكتب الإسلامية، مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد الإمام الشاطبي، السعودية.
- مجاهد بن جبر ومنهجه في التفسير، الحبر الدائم، أطروحة دكتوراه، جامعة أم درمان الإسلامية، ١٩٨٨م.
- موقع إسلام ويب، مجاهد بن جبر ومكانته العالية في التفسير، رقم 21816، 13/10/2016م، https://isla.mw/a2oqjd



