نهاية مكتبة

هوية بريس – محمد غزلي
1- في حينا، مكتبة صغيرة وثلاثُ مطاعم ومقهى، مكتبة تجارية لبيع الكتب والجرائد والمجلات. المطاعم تقدم الوجبات الخفيفة سريعة التحضير. عادة ما يتردد فؤاد على المكتبة في طريق العودة من المدرسة، كل شيء في المكتبة يجذبه، أرفف الكتب المرتبة بانتظام وفق الأجناس، أدب وعلوم، فلسفة وتكنولوجيا، روايات وقصص، تاريخ وجغرافيا، هندسة ومعمار، سياسة وتجارة، سينما ومسرح، فنون وموسيقى، مذاهب وأديان، يتلمس الكتب بانبهار على نغمات خلفية موسيقية هادئة، بين فينة وأخرى يلقي نظرة على صورة فلاسفة وعلماء رياضيات ومخترعين ينظرون إلى الأفق خلف إطارات زجاجية لامعة كما لو كان منجذبا إلى نجوميتهم الشهيرة، وأمام منصة الكتب الأكثر مبيعا يقترب ويدقق في العناوين لعله يتعرف على نوعية المواضيع التي جعلت تلك الكتب أكثر مبيعا، لكنه اكتشف أنها نفس العناوين المعروضة منذ أكثر من سنة، سوى رواية «شيفرة دافينشي» التي طالما رغب باقتنائها لو توفرت له النقود الكافية، بل إنه دفع للكتبي جزءا مُقدّما قبل أيام، فكرة أنها نفس الكتب المعروضة تشير إلى لغز أشبه بلغز «شيفرة دافينشي» نفسِها. هل سُرقتْ من المنصة المكشوفة؟ هل فقد الكتبي ذاكرته وباعها لمن دفع له سعرا أكثر. ظلت هذه الأسئلة تنقدح بذهنه.
فؤاد، أدمن التردد على المكتبة، لدرجة أنه صار عارفا بكل زواياها، يعرف أين تختبى كتب القصص والروايات، وأين تكمن كتب الفكر والفلسفة والدين، صارت الهندسة الداخلية للمكتبة مرسومة في ذهنه. كان يحتفظ بعناوين الكتب التي تثير إعجابه، يسجل عناوينها في ورقة صغيرة إلى حين أن تتوفر لديه النقود الكافية لاقتنائها، كان يجمع النقود في محصِّلة بلاستيكية صغيرة. وفي طريقه المدرسي تلك، نادرا جدا ما تستهويه رائحة الوجبات الصادرة من مطاعم الحي القريبة من المكتبة والتي تقدم المقليات والشيبس والمقرمشات المملحة، كان يدرك أن صديقه الوحيد «جمال» أصيب بمرض السرطان جراء تناوله المفرط للمملحات والأكلات السريعة. في تلك الظهيرة مر من نفس الشارع، اِلتمع بريقُ الكتب في عينيه، رفرف قلبُه حين لم يجد بينها «شيفرة داڤينشي»، حينها فقط أدرك أنه مجنون بالرواية، دخل وجلس على كرسي صغير قرب كونتوار المكتبة مستغلا فراغ المكتبة من الزبائن وسكونها الطويل، كان تمة صمت رهيب يطبق عليها باستمرار، لا أحد يقتني الكتب، أجزاء كتاب ألف ليلة وليلة اِعتلاها الغبار، لا أحد يفتح صفحاتها ليكتشف فَوانيسها المضيئة، أحس فؤاد بأن تمة شيء خاطئ في المكتبة، كل هذه الكنوز المعرفية تفتح شهية القراءة ولكن لا أحد يدخل يقتني الكتب بينما رواد المطاعم والمقهى المجاورة يتجاوزون عدد الكراسي فيضطرون إلى الاصطفاف في صف طويل، يجلسون بالساعات، أفواج تأتي وأفواج تغادر. ولكي يكسر فؤاد ثورة تساؤلاته الداخلية عن سبب الصمت الرهيب للمكتبة، اِقترب من الكُتُبي، وألقى السلام مخاطبا إياه بلطف:
– سلامٌ عليكم سيدي، دعني أسألك سؤالا لو سمحت..
لم يجبه الكتبي. ربما لم يسمعه، كان ساهما مُسنِدا ظهره على مقعد خشبي مبطَّن، يضع نظارة طبية سميكة بسُمك أسفل كأس زجاجي، تبدو عليه متاعب الشيخوخة ولو أنه في ريعان الفُتُوَّة، أو كما لو أنه في عزلة أبدية لايريد أن يخرجه منها أحد، لا يريد أن يحدثه أحد.
اِعتقد فؤاد أنه يعاني صعوبة في السمع، فعاود التحية والسؤال:
– لو سمحت سيدي، رواية «شيفرة داڤينشي»، رأيتها مرات كثيرة هنا على المنصة، ووعدتني بأن تُبقيها لي، إنني مصمم على اقتنائها، أي اختفت؟
وحينها، استوى الكتبي على مقعده والتفت بتثاقل وبطء إلى فؤاد، مدد يده على الكونتوار بلوحة صغيرة مكتوبٌ عليها:«مغلق» وقال: «نسيت أن أعلِّق هذه اللوحة على الباب، معذرة، كنت على وشك إغلاق المحل، إنه وقت الغداء وعليّ أن آخذ قيلولة ما بعد الظهيرة أنا مرهق، بإمكانك أن تعود في وقت آخر. عُد في المساء أو في الغد. أنا مُتعب. مللتُ من سؤالاتك عن الرواية، كلكم تفعلون ذلك، تسألون عن الثمن بدون اقتناء. الكل يسأل ويذهب. ما عادت لي رغبة في الاستمرار بهذا المكان المهجور. لا أحد يقرأ».
تراجع فؤاء إلى الخلف كما لو أنه خشي أن يرميه الرجل المُتعب بحجر أو بتلك اللوحة الصغيرة، وانطلق يريد الهروب. أمسك به الرجل:
«اِنتظر لحظة يا بني، أنت ولد صالح. روايتك موجودة، عندي منها نسخ في القيمطر الخلفي. إنني متضايق من قلة الإقبال على الكتب وحسْب، لم أبع كتابا واحدا طيلة أسبوع. في الوقت الحالي أعيل أربعة أطفال من بيع الكتب، لكنني لا أبيع شيئا، كيف أعيش، كيف أُعيلهم؟ أمي مريضة، كيف أساعدها، لقد أصبحتُ أضيع الوقت هنا، إنني ألعب، أكيد. الحياة ليست لُعبة.
أحس فؤاد بأن الرجل مسجون يود أن يتحرر من بؤس المكان وشرع يعتذر له بأدب:
– حسنا سيدي، لا أريد أن أزعجك، بدون إحراج سيدي، آسِف آسف، تعجبتني المكتبة كما تعرف، إنها مدهشة حقا ولكن أثارني قلة المرتادين.
رد عليه الكتبي دون أن يستدير نحوه:
– لا بأس عزيزي، لستُ منزعجا منك، أنا منزعج من غياب القُّراء منذ اكتشاف الهواتف الذكية، الساعة الرابعة مساء ستعلن المكتبة عن تخفيضات أخيرة قبل إغلاقها الأبدي، تخفيضات بخصم 50 بالمائة من سعر الكتاب. إنها فرصة لا تعوض ستمنحها المكتبة للزبائن الشغوفين بالقراءة وللمبتدئين كذلك.
ثم استدار الكتبي نحو فؤاد ونظر إليه بإهتمام هذه المرة قائلا:
– أنت مبتدئ ومحظوظ لأنك ستستفيد من التخفيض، إذ ستتمكن من اقتناء روايتك ومعها كتاب مجانا.
– لست مبتدئا سيدي، القراءة من هواياتي المفضلة كما الجري الخفيف. أستطيع أن أقرأ كتابين في الأسبوع. أنا محظوظ بهذه الفرصة وسأكون سعيدا لو ظفرتُ بنسختي من «شيفرة دافينشي».
ودع فؤاء الرجل بلطف:
– باي (وداعا) سيدي، موعدنا مساءا.
– مع السلامة.
خرج فؤاد مسرعا مصمما على فتح مُحصلته النقدية الخاصة/خزنة النقود الصغيرة والعودة إلى المكتبة حالما يغادر قاعة المدرسة على الساعة الرابعة والنصف. كان يود أن يكون قبل وقت العرض، لكن لا هواية تدعوه إلى التخلف عن الزمن المدرسي بالمطلق. الشيء الوحيد الذي كان يخشاه فؤاد أن تنفذ كل الكتب جراء الثمن المُغري جدا.
على الساعة الرابعة والنصف وفي طريق العودة من المدرسة، كان فؤاد يسرع الخطى، بل كان يركض، ركض مسافة كيلومتر ونصف كما لو كان عداءا للمسافات المتوسطة والطويلة، ما إن وصل إلى واجهة المحل حتى تخفف من معطفه وحقيبته، واتجه رأسا إلى الجناح المخصص للروايات، اعتقد للوهلة الأولى أن روايته المفضلة «شيفرة دافينشي» قد سبقته إليها يدُ قارئ نهِم، لكنه اكتشف أنها لازالت تحتفظ بمكانها فوق حاملة الكتب، وسرعان ما اكتشف أن لا شيء تغير بمناسبة العرض الخيالي الذي تقدمُه المكتبة، لا زبائن، لا لغط، ولا ضجيج التسوق يملأ المكان، كان كل شيء هادئا وعاديا جدا.
قال الكتبي: «أنت أول زبون يا بني وربما الأخير، تفضل، هذه روايتك، قراءة ممتعة».
دفع فؤاد ثمن الرواية وانصرف مكملا طريقه إلى البيت.
في اليوم الموالي كانت أبواب المكتبة مغلقة وتمة إعلانٌ معلق على لوحة الإعلانات يشير إلى تغيير المكتبة إلى مقهى مكتوبٌ عليه:
«زباؤنا الكرام، قريبا افتتاح مقهى دافينشي».



