هل التعدد من شرع الله؟ نظرات في الحكم الشرعي للتعدد
هوية بريس – الدكتور الحسين الموس
مناسبة هذا المقال أني استمعت لشريط فيديو لمتزوج بأربع نسوة، يحكي تجربته الناجحة –حسب قوله– لإحدى المواقع الإلكترونية، ويرغب فيها بدافع أنها من شرع الله، وأنها تحل مشكل العنوسة في البلدان الإسلامية. وقد أثارني في كلامه ترديده لمقولة أن “التعدد من شرع الله”.
وأقول موضحا إن الطعام والشراب من شرع الله، وإن التمتع بالطيبات في الحلال من شرع الله، وإن الضرب في الأرض والسياحة من شرع الله، وإن تكرار الحج والعمرة لمن استطاع من شرع الله، وإن بناء المصانع وإقامة الشركات التي توفر الشغل للعاطلين من شرع الله أيضا.
لكن ما هي مرتبة كل فعل من هذه الأفعال من شريعة الله؟
وهل هي من الضروريات أم الحاجيات أم التحسينيات؟
وما هي درجتها في الحكم التكليفي هل الوجوب أو الندب أو الإباحة؟
إن كثيرا من الناس لا ينتبهون لهذه المسألة فيُروجون أن التعدد من شرع الله، وأن الشرع قد أعطى الرجال أربعة، وصاحب الفيديو يتحدث عن حق ثلاث النسوة المكملات للأربع كأن كل رجل شرع له أن يتزوج أربع نسوة؟
إن الزواج بواحدة وهو الأصل، يعتبر بالنظر الخاص من المباح، ويرتقي بالنظر الكلي إلى المندوبات والواجبات لمن كانت عنده الباءة للقيام به. وإذا كان هذا هو حكم الأصل أي الزواج بواحدة؛ فماذا نقول عن إضافة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى الأولى؟
وهل له نفس حكم الأصل؟
وإذا كان كذلك فهل هو بإطلاق أم مقيد بشروط معينة لم يشر إليها صاحب الأربع؟
لقد تناولت هذا الموضوع في كتابي تقييد المباح دراسة أصولية وتطبيقات فقهية، وملخص ما أراه بالنسبة للموضوع وعلاقة بما سمعت مما يحتاج إلى تدقيق وبيان،لئلا يقع الناس في ما لا يُرضي الله تعالى أن:
1- التعدد أباحه الله عز وجل بشروط وضوابط، فلا ينبغي للمكلف أن يقبل عليه دون تحقق من قدرته على تحقيقها، وقد ختم الله تعالى الإباحة في الآية بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]. والعول في اللغة يطلق على كثرة العيال المؤدية إلى الفقر والاحتياج، كما يراد به الوقوع في الميل والجور وعدم العدل.
لقد حرم الإسلام الضرر، وكان التشريع الإسلامي سبّاقا إلى وضع القواعد والقوانين التي تمنع الفرد من الإضرار بالآخرين أثناء تعاطيه للمباح أو لِحقّه المشروع؛كما فرض الإسلام على المُكلف مراعاة ما ينتج عن تصرفاته المباحة من ضرر يلحق به أو بغيره، فلا ينساق مع الإباحة الجزئية، ويغفل عما يكتنفها من مضار بالآخرين. فالمكلف غير مَعفي من الاحتياط والتحفظ. وإذا كان الله تعالى قد بيّن في كتابه عدم استطاعة الانسان أن يعدل في كل شيء وخاصة والميل القلبي فإنه منه:“حظا هو اختياري وهو أن يُروّض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته وتحمل ما لا يلائمه من خَلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها حتى يحصل من الألف بها والحنو عليها اختيارا بطول التكرر والتعود ما يقوم مقام الميل الطبيعي”.
وذهب صاحب الكشاف إلى تخويف المكلف الراغب في التعدد من عدم قدرته على الوفاء بشرط العدل فقال:”إن العدل بينهنّ أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوّي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه ، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة. هذا إذا كنّمحبوبات كلهن؛ فكيف إذا مال القلب مع بعضهن”.
2- إن نجاح فرد في تحقيق السعادة الأسرية عند الجمع باثنتين أو ثلاث لا يعني نجاح جميع الناس، فكم من الويلات وقعت بسبب التعدد حيث عمد المُعدد إلى تشتيت عشه الأول، فافتقرت الأسرة وعالت، وتعرض أبناؤها للأزمات النفسية، وكم من الظلم وقع على الأولى وأبنائها مما حرّمه الله تعالى بنص القرآن الكريم.
لقد نبه العلماء إلى أهمية مراعاة ما يسمى بتحقيق المناط الخاص. ومداره على معرفة ما يدخل على المكلف في نفسه وأسرته عند إقدامه على فعل معين. إنه نوع من النظر في أعماق النفس البشرية وخباياها، وربط الحكم الشرعي بمقصده. فإذا فرغ المجتهد من تحقيق المناط العام وحدّد علة الحكم وما يشترط في المرشحين له؛ فإنه قبل تنزيله على الأعيان يحتاج إلى تحقيق مناط أدق من الأول يراعي فيه حال المكلفين، ومدى تأثير الحكم عليهم إيجابا وسلبا. وإن الناس يختلفون في تلقي الأعمال الشرعية، فرب مكلف يُدخل عليه عمل مباح فسادا في نفسه أو في أسرته أو في مجتمعه. فالتحقيق الخاص يُفرّق بين المكلفين، وينظر إلى حظوظهم ورغباتهم في كل ذلك. فهو تحقيق ينظر فيه المجتهد إلى ميولات كل مُكلف ورغباته، ومدى تأثير الحكم عليه. ولا شك أن مسألة التعدد تحتاج أكثر من غيرها إلى تحقيق المناط الخاص، وإلى النظر في مآلاتها على الفرد وعلى أسرته القائمة والمتوقعة.
3- إن التعدد قد يكون حلا لكثير من المشكلات، ولذلك أباحه الله عز وجل بضوابط؛ وهو يحتاج إلى حسن نظر، وتشاور وإحسان وتقوى. وقد أفاضت الآيات في سورة النساء في ذلك؛ فبدأت بالجواب من الله عما يستفتي حوله الرجال من أمور الزوجات وخاصة اليتيمات قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127]، فأكدت الآية على العدل وعلى مراقبة الله تعالى لأمور الخلق. ثم جاءت الآية بعدها تصف حال تخوف المرأة من نشوز زوجها وإعراضه عنها لسبب من الأسباب ( قد يكون لعجزها عن تلبية رغبته، أو لرغبته في الولد وهي لا تنجب..) فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا () وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا () وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا () وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 128 – 131]. فالآيات تحيط الموضوع بسياج التقوى الذي أوصى الله به الأولين والآخرين، وتدعو إلى التشاور، وإلى تجنب البخل والشح، وترغب في الصلح حفظا للأسرة من التمزق إن تعيّن قبول التعدد حلا لاستمرار الحياة الأسرية مع الأولى.
4- إن من شرع الله أن نطيع ولي الأمر فيما يقيده من مباحات، ويضعه من ضوابط. وإن ولي أمرنا باستشارة العلماء قيد كثيرا من أحكام الأسرة بما يضمن استقرارها، ومن ذلك إلزام المتزوجين بتوثيق الزواج والطلاق بعد أخذ الإذن بذلك، وإن إعلان صاحب الأربع حسب زعمه بلجوء كثير من الرجال إلى زواج الفاتحة، ثم فرض الأمر الواقع بعد الولادة باللجوء لمسطرة ثبوت الزوجية يعتبر من التحايل على القانون والشرع، ولا يليق بأهل الدين فعله مهما كانت مبرراتهم. وإذا كان البعض يرى في بعض أحكام التعدد بعض الإجحاف – وقد أشرت لبعضها في كتابي مدونة الأسرة تحت ضوء تقييد المباح- فإن الواجب أن يُترافع حولها ليتم تعديلها من خلال المؤسسات المعنية.
5- إن معضلة العنوسة تحتاج إلى نظر عميق، وإلى جهود مجتمعية لتطويقها. فنسبة الرجال غير المتزوجين حسب آخر إحصاء للمندوبية السامية للتخطيط تصل لقرابة 41 في المائة، ولعل من أسباب ذلك ارتفاع البطالة في صفوف الشباب تصل نسبة البطالة حسب نفس الإحصاء ل 15.7 في المائة.
فماذا قدم الأغنياء لتوفير الشغل للشباب؟
وماذا فعل المجتمع لمساعدتهم على الزواج وقد أمر الله تعالى بذلك حيث قال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور: 32] ؟
أليس الأولى بمن عنده فضل مال وفضل سكن أن يوثر شباب الأمة به ممن لم يجد زوجة واحدة بدل أن يسترسل في الثانية والثالثة والرابعة؟
وعندما تتوفر الباءة لكل الشباب، ويقوم المجتمع بدوره في تيسير تزويجهم، ننظر بعد ذلك في التعدد كحل لبعض المطلقات أو الأرامل، علما أن كثيرا من أصحاب التعدد وقد صرح بذلك صاحب الفيديو يلجئون لبنت العشرين ويتركون بنت الأربعين وما فوق ممن فاتها قطار الزواج؟
6- إن الأمة اليوم تحتاج لمن يردها إلى القصد والاعتدال، ويحيي فيها فقه التعامل مع المباح، ومعرفة حدوده وضوابطه، أو كما عبر عنه الشاطبي رحمه الله: “والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب، وهو شرط من شروط تناول المباح”. وإن بعض أبناء الدعوة الإٍسلامية قد أساؤوا للإسلام بسوء تصرفهم مع المباحات وخاصة التعدد، وأظهروا للناس كأن الشريعة ليس فيها إلا تلبية الغريزة، والمسارعة للوصول إلى الزواج بالثانية فما فوق، مع الغفلة عن قربات عظيمة تبني الأمة وتحصنها.
جزاك الله خيرا على المقال.
لكن كيف يستطيع الشباب العمل و غالب المناصب تستحوذ عليها الإناث،
لو أنهن جلسن في بيوتهن لحلت مشكلة البطالة و لاستطاع هؤلاء ااشباب فتح بيوت و لحل مشكل العنوسة بنسبة كبيرة.
فأرباب العمل يفضلون تشغيل الأنثى لأنها لا تستطيح الدفاع عن حقوقها، لا نقابات و لا إضرابات….
أما التعدد، فكل فقيه نفسه، مطلع على قدرته من عدمها، والعدل بين الزوجات لن يحصل أبدا و لو حرص المسلم على ذلك خصوصا من الناحية العاطفية.
هناك فقه نظري وفقه عملي، وكثير مما ذكره الدكتور وأصله علميا قد ذكره الأخ جمال انطلاقا من تجربته.
والبطالة ليست وحدها هي سبب العنوسة، بل هناك أعداد كبيرة من الناس لا تقل عن أعداد العاطلين لديهم قدرة على الزواج ولا يتزوجون بسبب انتشار الفاحشة وضعف العفة في المجتمع.
والخطأ في ممارسة الشرع ليس فقط في باب التعدد بل يشمل مجالات كثيرة بسبب انتشار الجهل وقلة العلم، فالذي ينبغي هو بث العلم وتففيه الناس وإحياء التدين في الحياة العامة للناس وأن يكون الشرع هو المؤطر لحياة الناس في زواجهم وبينهم وشرائها وغير ذلك، وألا يقتصر كما هو الحال على العبادات البدنية.
وأما دعوة من أوسع الله عليه في الرزق ألا يعدد ويعطي غيره ليتزوج فمجانب للصواب، وقد كان في الصحابة من له أكثر من امرأة ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع التعدد ويمنح العزاب ما كان يريد أن يتزوج به ليتزوجوا، لأن ذلك لا يسد حاجته ورغبته في الزواج بأكثر من واحدة، كما أنه ليس كل أحد مؤهلا للزواج أو له رغبة فيه وإن منحته ما يتزوج به.
السلام عليكم ورحمة الله. عوض تشجيع التجارب الناجحة التي لها اصل يسعى المقال بطريقة جدلية إلى الصاقنا بالواقع الذي أساسه معلوم
القانون لم يقيد فقط المباح وإنما ضيقه بل كاد يمنعه. ولم يكن ذلك رغبة في حل المشكلات الاجتماعية المترتبة عن أخطاء الناس في ممارسة المباح من التعدد، وإنما تأييدا ونصرا لتيار لا ديني ملحد ينشر الرذيلة ويحارب العفة متذرعين بتلك الأخطاء التي لا يقرها شرع ولا عقل.
ويمكن أن يقال في مقابل ذلك إن الناس أيضا يخطئون ويخالفون الشرع فيما أباحه من بيع وشراء فهل نقيد كذلك البيع الشراء أم نسعى في تعليمهم أحكام البيع والشراء؟
إن هذه المعضلات المجتمعية تحتاج إلا فقه عميق وتظافر لجهود المصلحين بصدق وإخلاص عسى الله تعالى أن يصلح حالنا ومآلنا.
كاتب المقال مسلم كيوت
إن كثيرا من الشبهات التي ذكرها الدكتور حول التعدد مما يردده العوام قد أجاب عنها صاحب الفيديو الذي لم يعجب الدكتور الفاضل. وأحيله على بحث نفيس للعلامة الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عند تفسير قوله تعالى: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم” فإنه نفيس جدا وفيه جواب عن كثير من الشبهات التي طرحها وفيه تبصير بالواقع لعله ينتفع به إن شاء الله سبحانه.