هل يشعل قرار وزير التربية الوطنية لهيب الاحتجاجات في المغرب؟
هوية بريس – بلال التليدي
ملف ما يسمى بالمتعاقدين (أطر الأكاديميات) يعتبر من التهديدات الأساسية للسلم الاجتماعي في المغرب، فمنذ عقدين من الزمن، لم يعرف المغرب حراكا احتجاجيا ذا طبيعة مطلبية، بالحجم الذي برز به حراك الأساتذة المتقاعدين.
جوهر هذا الملف الاحتجاجي يرتبط بمطلب الإدماج في الوظيفة العمومية، بعد أن اتخذت الدولة قرارا بإنهاء التوظيف في الأسلاك التعليمية الأساسية والإعدادية والثانوية، وتعويضه بالتعاقد.
منطق الدولة، لا يساير أشكال التعاقد الموجودة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، فهذه الدول، تبني منطقها في التعاقد في مجال التربية والتعليم على مبدأ فسخ العقد أو تعظيم الراتب، حسب المردودية البيداغوجية، في حين، جنحت بعض الدول العربية لإعمال سياسة التعاقد بدل التوظيف استجابة لإكراهات مالية ورغبة في تخفيض نسبة الكتلة الأجرية، حتى تضمن الاستفادة من القروض الائتمانية الدولية.
يعود هذا الملف إلى سنة 2016، فقد وجدت حكومة بن كيران نفسها أمام نزيف من تقاعد الأساتذة، فاضطرت إلى تبني نظام التعاقد لتعويض هذا النقص الهائل في الموارد البشرية، وفتحت مجال التعاقد أمام حاملي الشهادات العليا، وكان التعليل، أن تبني نمط التعاقد في توظيف المدرسين ينسجم مع متطلبات الجهوية المتقدمة، ويلائم وضعية الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين التي تحولت إلى مؤسسات عمومية مستقلة إداريا وماليا.
المفارقة أن الأحزاب التي شكلت حكومة عزيز أخنوش، تورطت في الحملة الانتخابية الأخيرة، في وعود كبيرة، محاولة توظيف هذا الملف انتخابيا لكسب أصوات الناخبين.
الأمين العام لحزب الاستقلال، السيد نزار بركة، تعهد بإسقاط التعاقد وإدماج الأساتذة المتعاقدين (حوالي 120 ألفا) في الوظيفة العمومية. أما السيد عبد اللطيف وهبي، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، فركب لغة شعبوية اعتبر فيها أن نظام التعاقد هو نظام سخرة، وتعهد بالتراجع عنه نظام في حال وصول حزبه لرئاسة الحكومة.
أما حزب رئيس الحكومة (الأحرار) تعهد هو الآخر بإلغاء نظام التعاقد، ووعد بالزيادة في أجور رجال التعليم بحوالي 2500 درهم (أكثر من 250 دولارا).
والحقيقة، أن هذه الوعود التي كانت تسير في اتجاه معاكس لاستراتيجية الدولة، لعبت دورا خطيرا، في إمداد زخم إضافي للحركة الاحتجاجية لأطر الأكاديميات، فقد أمدتهم بحجة قوية على أن النضال في الشارع يفضي إلى نتائج مهمة، وأن هذه الفئة أصبحت رقما سياسيا حاسما حتى في العملية الانتخابية.
عين الأساتذة المتعاقدين (أطر الأكاديميات) كانت على البرنامج الحكومي، وعلى قانون المالية، فهذه المحطة، هي التي تختبر فيها الوعود، وهل تنحاز أحزاب التحالف الحكومي، لاستراتيجية الدولة، أم ستلتزم بوعودها الانتخابية.
المفارقة، أن السيد فوزي لقجع، وزير الميزانية، تبنى منطق الدولة، فلم يسد الطريق أمام حلم الإدماج في الوظيفة العمومية فحسب، بل تحدث عن توسيع التعاقد ليشمل قطاع الصحة.
السيد وزير التربية الوطنية أعلن هذا الأسبوع عن عزمه محاورة ممثلي هذه الفئة، في الوقت الذي بشر فيه الناطق الرسمي باسم الحكومة بقرب حل نهائي لهذا الملف نهاية الشهر الجاري.
لكن قبل ذلك، أعلنت وزارة التربية الوطنية عن مباراة لتوظيف 15500 إطار من أطر الأكاديميات، وأدخلت ضمن شروط المباراة شرطا غريبا، يتعلق بتقييد سن المتبارين في 30 سنة.
ملف ما يسمى بالمتعاقدين (أطر الأكاديميات) يعتبر من التهديدات الأساسية للسلم الاجتماعي في المغرب، فمنذ عقدين من الزمن، لم يعرف المغرب حراكا احتجاجيا ذا طبيعة مطلبية، بالحجم الذي برز به حراك الأساتذة المتقاعدين
حملة انتقادات واسعة انطلقت من وسائل التواصل الاجتماعي، تندد بهذا الشرط، وترى أن فيه تراجعا كبيرا، عما قررته حكومة بن كيران التي فتحت التباري لمن هم أقل من 45 سنة، وحكومة سعد الدين العثماني التي فتحته في وجه أصحاب الخمسين، بل إن البعض أعلن بشكل سريع عن تأسيس تنسيقية وطنية لإسقاط شرط سن الثلاثين ضمن شروط المباراة.
جدل كبير نشأ لتفسير قرار الوزارة، فالبعض تجاوز حدود اللياقة في النقد، وعزا الأمر لعدم الاختصاص وضعف الخبرة في المجال التربوي (طعن في أهلية الوزير) والبعض الآخر، بدأ يقدم تفسيرات سياسية، مسنودة بمعطيات سوسيولوجية غير مؤكدة، تعتبر أن الفئة المؤثرة في صناعة الحراك الاحتجاجي للأساتذة المتعاقدين يتراوح عمرها ما بين 30 و50 سنة، وأن من شأن تقييد السن في 30 سنة أن يخمد زخم الاحتجاجات.
رأي ثالث، فسر الأمر بضغط قطاع التعليم الخصوصي، الذي أراد تحصين موارده البشرية التي تضطر إلى المشاركة في هذه المباريات.
الوزارة بنت قرارها على حجة تأمين الجودة والمردودية، وأن التجربة أكدت أن عطاء الذين يفوق سنهم ثلاثين سنة، يكون محدودا في قطاع التربية والتعليم.
الواقع، أن خبرة وزير التربية الوطنية بمجال التربية والتعليم جد محدودة بدون شك، لكن القطع في القرارات التي تصدر في مثل هذه القضايا ذات العلاقة بالخبرة الإدارية، لا يمكن أن تتم من غير استشارة الجهاز الإداري.
التفسير المرتبط بالدوافع الأمنية لإخماد الحراك، يملك منطقه القوي، لكن ما يضعفه، أن فرض سن 30 سنة، يمكن أن ينتج عنه حراك آخر، يسند الحراك الأصلي، ويمكن أن يزيد الملف تعقيدا من الناحية الأمنية، وخبرة السيد شكيب بن موسى السابقة، كوزير سابق في الداخلية، لا يمكن أن تغفل مثل هذا التقدير.
التفسير المرتبط بضغط قطاع التعليم الخصوصي، قوي، لكن ما لا يجعله مقصودا، هو شرط آخر وضعته الوزارة، يلزم المتبارين المشاركين بأن يكونوا غير مرتبطين بأي عقد مع قطاع التعليم الخاص.
حجة وزارة التربية الوطنية لها بعض الوجاهة، لكنها غير قوية، فالاحتجاج برغبة من هم في سن 45 سنة في مغادرة مهمة التدريس بسبب الانهاك، يعود في الأصل لممارسة هذه المهنة لأكثر من 30 سنة، وهو أمر طبيعي، ومن ثم، لا يمكن أن يقارن به من لم يمارس بعد مهمة التدريس ممن سنهم فوق الثلاثين.
عمليا، يظهر هذا الحراك الجديد، مفارقة كبيرة، فهو يستمد أصله وحجته من قبول نظام التعاقد، مع فرض جزئية تتعلق بشرط وضعته وزار التربية الوطنية، يقيد حق المتبارين في التمتع بما يوفره هذا النظام، في حين، يقوم الحراك الاحتجاجي لأطر الأكاديميات (منذ 2016) على فكرة لإلغاء نظام التعاقد والحق في الإدماج في الوظيفة العمومية.
السيد وزير التربية الوطنية، أعلن تمسكه بتقييد السن وعدم التراجع، بينما نخب سياسية ونقابية، اعتبرت أن من شأن هذا الموقف أن يعمق الاحتقان، ويزيد من شرارة الحركة الاحتجاجية.
الاحتجاجات العامة التي عرفها المغرب غداة قرار إجبارية الإدلاء بجواز التلقيح للولوج إلى المؤسسات الإدارية والخدمية والفضاءات العمومية المغلقة، أعطت إشارات مقلقة، وقد تحركت السلطة بذكاء لتطويق تداعياتها، حت لا تتحول إلى حركة احتجاجية ضد غلاء الأسعار، ومن المرجح أن أي قرار يمكن أن يدفع في نفس المنحى السابق، سيتم مراقبة أثره من قبل السلطة، والتدخل الفوري لإلغائه في حالة ما إذا توسعت الحركية الاحتجاجية، وأنذرت بنسف كل الجهود التي تبذلها السلطة لتحصين السلم الاجتماعي وبنماء الجاهزية الداخلية لمواجه التحديات الخارجية.