عصيد يرتدي جبة عالم السلوك ويخلص إلى أن: «الغرب متخلق.. والإسلاميين يتظاهرون بالدفاع عن الأخلاق لتمرير أفكارهم»
هوية بريس – نبيل غزال
الإثنين 07 شتنبر 2015
لا يستطيع أحد أن ينكر مكانة الأخلاق من الدين، وأن الله تعالى قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق وصالحها، وأنه صلى الله عليه وسلم بشَّر المتخلق بأنه: «..يدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»، وأن: «أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحسن الخلق».. وأن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة: حسن الخلق..
فهذه الأمور تكاد تكون من المعلوم عند المسلمين بالضرورة والتجربة والواقع أيضا، والمسلم ما أن يلتزم ببعض شرع الله حتى يظهر ذلك جليا في سلوكه وتعامله، وحتى المنحرفين والمجرمين الذين يلقى عليهم القبض المرة تلو الأخرى، ويُرهقون قوات الأمن ويتعبونهم، ويثقلون كاهل المؤسسات السجنية وتعجز أن تعيدهم إلى الوجهة الصحيحة، ما أن يلقي الله تعالى في قلوبهم الهداية ويلتزموا شرع الله تعالى حتى يتغير حالهم، وتتحسن أخلاقهم، وهذا التحول ليس قاصرا على الدول الإسلامية فحسب بل ينسحب منطقه حتى في الدول الغربية العلمانية التي تستعين بالدعاة المسلمين لتغيير سلوك بعض الجانحين وتحسين أخلاقهم.
وقد لا يعني هذا أن الملتزمين بالدين كاملو الأخلاق، أو أنهم لا يخطؤون، لا أبدا وإنما منهم المتخلق؛ ومنهم من قطع شوطا في طريق التخليق، ومنهم من يحتاج إلى كثير من التربية والسلوك ليرقى في مدارج الأخلاق المعتبرة شرعا وكونا.
وقد أثار انتباهي مؤخرا تحامل بعض المتطرفين من العلمانيين حيث زعم أن «كثيرا من الإسلاميين غير متخلقين، لكنهم يتظاهرون بأنهم يدافعون عن الأخلاق وأن الآخرين غير متخلقين».
هكذا جمع «عصيد»؛ في حوار له مع أحد الجرائد الإلكترونية؛ الإسلاميين في سلة واحدة، ليؤكد ابتداء تحامله وبعده الكبير عن الموضوعية التي يدعيها في التحليل، إذ كان من المفروض أن يقوده البحث والتحليل البعيدين عن ردود الأفعال إلى الإنصاف والاعتراف بالواقع كما هو مشاهد ومعيش لا كما يحب أن يراه فقط.
فقد زعم في حواره هذا أن «الأخلاق أعم من الدين لا العكس» واستدل لذلك بأن «الدول الأوروبية -العلمانية- التي عزلت الدين عن المجتمع تجد الناس فيها يحترمون الصف ولا يعتدون على حق الآخرين».
بهذه الرؤية السطحية؛ وبمجرد انبهاره باحترام الغربيين لحق الأسبقية؛ توصل هذا «المثقف النحرير»!!! إلى أن الأخلاق أعم من الدين!!!
بداية أنا لا أنكر -كغيري طبعا- وجوب احترام حق الأسبقية وحق الآخر عموما، لأن هذا من صميم الدين الذي نعتز بالانتماء إليه، لكني في الوقت نفسه لا أستطيع الحكم على منظومة الأخلاق الغربية بالنظر إلى جانب وإهمال آخر.
نعم هناك تقدم كبير فيما يخص المواطنة واحترام حقوق الانسان في الغرب، لكن عن أي إنسان نتحدث؟
إن كنا نتحدث عن الإنسان الغربي فنعم، أما إن كنا نتحدث عن الإنسان البورمي أو الإفريقي أو الفلسطيني أو السوري أو المصري أو الأفغاني.. فهذا شيء آخر.
فالدول الغربية التي يسوّق لها عصيد كنموذج يحتذى ويبشرنا بمنظومتها في خرجاته الإعلامية؛ لم تكد تنفض يدها من ثوراتها التي تبنت بعدها العلمانية، وتشربت من خلالها «بعمق» قيم (الحرية والأخوة والمساواة)!! حتى بادرت بالهجوم على جل الدول الإسلامية والإفريقية والشرقية، فنهبت خيراتها، وخربت مقدراتها، وطمست هويتها.
فلم تكد تكتمل عشر سنوات على الثورة الفرنسية 1789م، حتى وصل نابليون يقود الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، محاولا بعدها السيطرة على بلاد الشام.
ولا زال هذا المخطط يتكرر إلى يوم الناس هذا..
ولا زال الغرب يحكم قبضته على كل مقدرات الشعوب الأخرى وخيراتها، ويسعى إلى تفتتيها وإخضاعها لسلطته وثقافته بالحديد والنار..
ولازال يصر على احتكار الطاقة والموارد الطبيعية وأسلحة الدمار الشامل التي يمكنه بواسطتها محو قرية أو مدينة عن بكرة أبيها..
فمراد عصيد من تلميع النموذج الغربي؛ كما صرح بذلك في حواره؛ أن يقطع الطريق على الإسلاميين ويسحب منهم الخطاب الأخلاقي الذي يستغلونه -وفق ادعائه- لتمرير أفكارهم، لذلك فهو يتعب نفسه كثيرا وينحت في الصخر ليثبت لنا أن الأخلاق أعم من الدين.
وتخفيفا على ما نزل به مجددا من «إيبولا الأفكار» نخبره بإيجاز أن «الأخلاق في المنظومة الإسلامية ليست كسبية على إطلاقها، كما أنها ليست وهبية جبلية على إطلاقها، وإنما تتضافر الفطرة السليمة مع دلالة العقل التام السوي في إدراك وتقرير جانب من الأخلاق، ثم يأتي دور الشرع ليكمل الفطرة، ويحمي حمى العقل، ويضع الضوابط العامة التي ترقى بالفرد والمجتمع من الوجهة الخلقية، فهذه العناصر الثلاثة كل منها يتصل بالآخر ويكمله» (النظرية الخلقية عند ابن تيمية:61).
فرغم الدور الكبير والمهم أيضا لكل من الفطرة والعقل في إدراك مكارم الأخلاق ومحاسنها، إلا أن هذا الإدراك يظل غير تام ولا منضبط دون شرع يكمل الفطرة ويقيم العقل، من أجل ذلك قال صلى الله وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فالشرع لا ينكر دور العقل السوي طبعا في إدراك بعض الأخلاق وإثباتها، لكن ما سعى إليه العلمانيون دوما فيما يخص هذا موضوع كما في غيره هو تحييد الدين و«إنكار أي ثبات للقيم والأخلاق، لكون مبدأ الحرية الفردية يخول للأفراد الحق في إنشاء القواعد الأخلاقية والمعايير القيمية بالاعتماد على عقلانيتهم القائمة على مبدأ ما هو نافع فهو خير وما هو ضار فهو شر» موقف الليبرالية في البلاد العربية من محكمات الدين.
فالغرب مثلا؛ وإلى وقت قريب؛ كان يجرم عددا من السلوكيات اللاأخلاقية من قبيل الزنا واللواط والسحاق.. وبعد أن غزت المنظومة العلمانية مجتمعه أصبحت هذه الممارسات عادية ومقبولة ومشرعنة حتى بين القاصرين إن تمت برغبتهم.
فالحرية الفردية في الفلسفة العلمانية مقدمة على القواعد الأخلاقية، وما يمكن اعتباره اليوم أخلاقا قد يصير في المستقبل مستهجنا ومتجاوزا، والتمسك به رجعية وماضوية، فالأخلاق كلها بالنسبة لهم نسبية والإنسان يستطيع أن ينظم حياته ونظامه الاجتماعي والأخلاقي دون تدخل من الدين.
وقد وصل لهذا الانحراف عدد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين من أمثال الاسكتلندي «ديفيد هيوم» والإنجليزيين «فرانسيس بيكون» و«جيريمي بنتام» وتبعهم «بنو ثرثرة» من أبناء جلدتنا فكرروا كلامهم دون عزو طبعا، وكأنهم أتوا بما لم يأت به الأوائل؛ وصرح السوري عزيز العظمة في كتابه (العلمانية من منظور مختلف:37) أن: «العلمانية هي عدم ربط الأخلاق بالثوابت، وإنما ربطها بالتاريخ والزمن».
وقد كان حري بعصيد قبل أن يمثل لنا لتقدم الغرب في مجال الأخلاق باحترامهم لحق الأسبقية وعدم رميهم الأزبال في الطريق، أن يحدثنا عن أخلاق شباب الغرب مع آبائهم وأمهاتهم، ونوعية العلاقة التي تربط أفراد الأسرة الصغيرة والممتدة..
ويحدثنا عن نوع العلاقة التي تربط أفراد المجتمع، هل هي علاقة أخلاقية تراحمية، أم تعاقدية مصلحية..
ويخبرنا عن الأرقام الرسمية وإحصائيات الأمم المتحدة فيما يتعلق بالاتجار بالبشر في الغرب، والاستغلال السنوي لما يزيد عن 700.000 امرأة بصورة بشعة، ومعاملتهن معاملة وحشية، ناهيك عن الاعتداء والاغتصاب والتحرش.
ويذكرنا أيضا بأن مكتب الإحصاء الحكومي في فرنسا أكد أن عدد الأطفال الذين يولدون خارج نطاق الزواج تجاوز عدد الأطفال الذين وُلدوا لأبوين متزوجين، وأن قضايا العنف ضد النساء تكلف الحكومات الأوروبية أموالاً طائلة، وأن سويسرا وحدها تدفع سنويًا حوالي 270 مليون يورو كلفة للمحاكم وبرامج التأهيل والعلاج الخاصة بمثل هذه الحالات.
نعم؛ هناك انحرافات داخل مجتمعنا من هذا القبيل؛ والسبب وراء ذلك هو تحييد الدين وإقصائه من المقررات التعليمية والقنوات الإعلامية، وفي مجالات الاقتصاد والسلوك والتشريع، فكان من الطبيعي جدا أن نصل إلى بعض نتائج الغرب إن تمكن العلمانيون من التحكم في هذه القطاعات الحساسة والسيطرة عليها.
كنت أود أن يخوض في موضوع الأخلاق من هو متمثل بها؛ حريص على عدم الخروج عن حدودها، حتى إن اختلفت بيننا وجهات النظر جمعتنا قاعدة الأخلاق، أما أن يفتح النقاش حولها من يصر -صباح مساء- على رمي الناس بالباطل، ويعتمد الأراجيف والأخبار الكاذبة للنيل من خصومه الأيديولوجيين، ويطعن في عقائد الناس ودينهم وأنسابهم، ويظهر وجها للعلن ويبطن آخر في الخفاء، فهذا أظنه بعيدا عن الأخلاق ويحتاج قبل الحكم على أخلاق الناس إلى تَخْـليق.