الصمود وتقليل الخسائر في زمن الانكسار انتصار
د.محمد بولوز
هوية بريس – الإثنين 14 أكتوبر 2013م
ما حدث في التعديل الحكومي الأخير ببلدنا فتح الباب لسيل كبير من الكلام والتصريحات، وأسال قدرا مهما من المداد بحسب تعبيرنا القديم قبل أن تحل النقرات على لوحات المفاتيح في الأغلب الأعم مكان الأقلام وما تحويه من حبر ومداد، ويظهر التشاؤم والسخط وعدم الرضا هو الغالب على تلك المواقف والتحليلات فتجدهم يحصون الحقائب ويتابعون هندسة الوزارات وما وقع فيها من تعديلات، وخسارة هذا الطرف أو ذاك، وزحف للتقنوقراط وعودة “وزارات السيادة” وظهور الدولة العميقة بقرونها واضحة جلية في التركيبة الجديدة، ومقدار ما يكلف هذا التغيير ميزانية الدولة في ظل الأزمة.
ودعوة إلى استقالة رئيس الحكومة وطرح المفاتيح، وبعض الدعوات توجهت حتى لمناضلي حزب العدالة والتنمية ليستقلوا من الحزب أو يجمدوا عضويتهم أو يهددوا بذلك وألا يكتفوا بمجرد التذمر والسخط مما وقع من تنازلات، ومن محرض لبعض القيادات للثورة الحزبية على ما حدث، ومن قائل:تمخض الجبل بعد مدة حمل كاملة فولدا فأرا! وبعضهم أسرف في الوعظ مذكرا بالأخلاق ومستحضرا لأقوال الفرقاء بالأمس القريب بعضهم في بعض، إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يعني غير موت السياسة في هذا البلد.
والحال أن السياسة في مثل بلدنا كالفلاحة البورية: هي مواسم فيها خصب وجدب وأمطار وجفاف، وربما عواصف ورياح سموم أو هي مناخ معتدل ونسيم عليل، أو قل بفعل خضوع السياسة عندنا للأمزجة والطوارئ وموازين القوى والظروف الإقليمية والدولية هي أمواج: إما أن ترفعك إلى أعلى ولو من غير تجديف أو تنزل بك إلى القاع، ومن المهم قبل اتخاذ المواقف ومباشرة التحاليل أن يعرف الناس أهُم في ربيع أم خريف؟ أهم في صيف أم شتاء؟ أهُم مع بحر هائج أو هادئ؟ أهُم في مد أو جزر؟
فإذا كان الموسم موسم فرص يلام الفاعل السياسي على عدم اقتناصها أو بطئه في اغتنامها، وإذا كانت الأخرى ولم يكن الموسم مناسبا وملائما ينتظر منه الصمود والتحدي وتقليل الخسائر وحفظ الرأس وإن توالت الضربات على الأطراف، والاجتهاد في تجنب الضربة القاضية، وربما أحيانا يكون مجرد الوقوف والحفاظ على الحياة لجولة أخرى وحد أدنى من الإضاءة للإشعاع أكثر بعد ذلك، يعد كل ذلك ربحا وانتصارا في عرف العقلاء والعارفين بل ويصل الأمر في ديننا وقيمنا إلى اعتبار الاستشهاد انتصارا على الذل وبيع المبادئ وخيانة الأمانة. ويصيح النبلاء: نموت نموت ويحيى الوطن.
نعم، ما حدث: في بعض جوانبه تراجع واضح بخصوص زيادة عدد الوزراء مما يؤثر غالبا على الفاعلية وزحف التكنوقراط وتوسع وزارات السيادة مما يقلل فرص الشفافية والمحاسبة، وخروج الدكتور سعد الدين العثماني من وزارة الخارجية خسارة كبيرة، وهناك من يعتبر خروج محمد الوفا من وزارة التربية الوطنية خسارة أيضا وخصوصا في جانب الحكامة، وعموما فقد كانت هناك تضحيات وسلبيات، ولكن لنقارن كل هذا مع التاريخ الذي لم يقع.
ربما كان من الحلول الممكنة أن يستسلم رئيس الحكومة لابتزاز شباط والذي يبدو في الظاهر أنه لن يعطى كل ما ظفر به الآن حزب الأحرار ومعهم آخرون دخلوا على الخط وينتهي الإشكال، والحال أن قبول الابتزاز والاستجابة للاستفزاز كان سيدخل الحكومة في ارتباك منهجي ودوامة من تنازلات لا تنتهي ولا يعرف سقفها إذ كما قال بعض المحللين بأن شباط يريد اقتسام رئاسة الحكومة، ولا يمكن بحال لأي مؤسسة أن تسير برأسين متشاكسين.
والحل الآخر السهل على حزب العدالة والتنمية أن يضع المفاتيح ويرفع الراية البيضاء منذ التعثرات الأولى للمفاوضات ويدعو لانتخابات سابقة لأوانها والتي يشير عدد من المراقبين إلى تكلفتها الغالية وعدم مناسبتها لبلادنا في ظل الظرفية التي تعيشها وفي ظل المناخ الدولي العام، وتلك الاستقالة كانت على الراجح ستقذف بالبلد نحو المجهول وخصوصا إذا صاحب تلك الانتخابات نكوص وانتكاسة للشفافية والنزاهة وزحف للفساد والبلطجية والمال الحرام، ولعل ما حدث في دائرة مولاي يعقوب يقوي هذا الاحتمال وفيه مؤشر لما يمكن أن يحدث إذا أعيدت الانتخابات في هذه الظروف وفي ذلك ما فيه من عبر للمتحمسين لإعادة الانتخابات حتى في صفوف العدالة والتنمية.
وما هو في حكم المؤكد وجود أطراف من المنتفعين المقاومين للإصلاح والمفسدين والمستبدين داخل البلاد وخارجها ممن يتحينون الفرصة لإغلاق قوس الربيع الديموقراطي، وحتى تشطيب من حملتهم موجة ذلك الربيع ورياحه من خريطة العمل السياسي، أو على الأقل إرباكهم ومحاصرتهم وإضعافهم والمبالغة في إنهاكهم حتى لا يظفروا بشيء من طموحاتهم وطموحات من اختارهم، يفهم ذلك من اللحظات الأولى لتولي الحكومة في نسختها الأولى مهامها، فكانت الضربات من خارجها، ثم انتقلت إلى داخلها ومن أبرز مكوناتها، ولما خرج شباط بدأت المعركة الطاحنة للمفاوضات وتزامنت مع نزول موجة الربيع الديموقراطي إلى القاع، حتى اعتقد كثير من الناس انتقالها إلى خريف أو موت، والحال أن الذي حدث مجرد جزر، ومنعرج تفاعلي بين الثورة والثورة المضادة، فبحر الثورات لا يزال هناك في أعماق الشعوب التواقة إلى الحرية والانعتاق من الفساد والاستبداد، وسيعقبه بإذن الله تعالى مد وتمدد واستئناف، ولا شك سيكون في المرة المقبلة هادرا قويا ومزمجرا مزلزلا إذا لم يحسن القائمون على الأمور تصريف إقباله ومياهه بسلام.
وإذا جاءت المفاوضات في ظروف غير مناسبة فإن ما يحدث من التنازلات يكون مفهوما ومتفهما ما لم تكن في الأصول والمبادئ، وحتى لا نتشاءم فالمعركة ليس محسومة لصالح جبهة الفساد والاستبداد وإنما ينالون من أهل الصلاح وينال هؤلاء منهم، ولا شيء في الحقيقة يهزم الحق والصواب إذا ثبت عليه أهله ولو بعد حين.
فقد كان الإسلاميون خارج دوائر القرار وكان التوجه جادا لمزيد من تهميشهم ثم جاء الربيع الديموقراطي فدخلوا في دوائر لم يكونوا يحلمون بها، وربما رفعتهم تلك الرياح فوق ما كانوا يأملون أو بالأحرى فوق ما يستطيعون مواجهته من تحديات ومشكلات، فإذا أنزلتهم قليلا رياح السموم فلا حرج ولا إشكال، ويبدو أن اختبار الاندماج قد نجحوا فيه والراجح أنه سيستمر، وقد تشكلت الحكومة رغم صعوبة ولادتها وكانت أحلام البعض أن تسقط وتفشل، وها هم من كان ينتقدها بالأمس ويقود حملة ضدها يقبل اليوم أن يعمل بجانبها وتحت مسؤوليات رئيسها، ولا شك أن خيرالصالحين بإذن الله سيعدي، ومن كان يسرق كثيرا سيقلل، ومن كان يفسد علنا سيستتر، وقد تم منع المالية عن الطامح فيها وبقيت عين العدالة والتنمية عليها، وعرف الحزب خارطة الطريق في قطاعات وزارية يصعب على من جاء بعدهم أن يستغفلهم فيها، ثم إن صلاحيات رئاسة الحكومة تمكن من سلطة المتابعة والمراقبة والمصادقة، فالخير بإذنه تعالى إلى الأمام، والمهم أن تبقى البوصلة في وجهتها الصحيحة وأن يستمر السير على هديها بغض النظر عن وتيرة السير حسب المستطاع.
وأقول: إن الصمود وتقليل الخسائر في زمن الانكسار في حد ذاته نجاح وانتصار، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مداومين على مبادئكم النبيلة وسلوككم القويم وأخوتكم الصادقة.