مجرد افتراض ولكن له لوازم
محمد بوقنطار
هوية بريس – الأربعاء 04 دجنبر 2013م
لا زلت أذكر ونحن في حصة الرياضيات نتعلم تقنيات البرهنة والتعليل، فكنا أحيانا نعتمد مسلك الافتراض حيث نفترض أن المستقيمين متقاطعان في نقطة من نقط مسارهما فنخلص إلى أنهما متوازيان، ونفترض أن طرح طرفي المعادلة المتعددة المجاهيل يؤول إلى الصفر فنخلص إلى تحديد الهوية العددية للمجاهيل السينية.
وقد كانت طريقة سهلة يسيرة نشم من خلالها ريح الحلول والنتائج التي لا تخطئها القواعد المعمول بها في مجال الحساب جبرا وهندسة، والحقيقة أنها طريقة وكما جربنا فعاليتها ونحن نتودد إلى النتيجة والنقطة والكسب العلمي المأمول في حدود المتاح لا المطلوب، نرى عين فعاليتها في باب ما يمكن أن يؤول إليه كدح العلمانية الفاسد من نتائج كارثية ومزالق عدوانية.
فهب أننا تماهينا مع طرح القوم فافترضنا سلفا تصورا تكون فيه الحياة بشتى مناحيها حقل تجربة لتصورات عابثة وجسدا مشاعا تحقن فيه كل الجرعات الموصوفة والمتجاوزة، وتطعم شرايين الحياة فيه بتطعيمات الحداثة ولوازمها المارقة.
وهب أننا أعطينا لكل فرد من أفراد مجتمعنا ذكرا كان أو أنثى شابا كان أو طفلا شيخا كان أو كهلا حريته، والحرية هنا ليس في مقابل الرق والعبودية ولكنها حرية خاصة بمنظور دعاتها من الحداثيين، حيث هي مرادفا للفوضى والمشاعية الجنسية واقتناص الحقوق المدنية والجنائية خارج منظومة الشرع والقانون والمؤسسة.
والمناداة جهارا بالتحلل من كل فضيلة والدعوة إلى ركوب صهوة كل شهوة من شذوذ ومثلية وخنا وجاهلية وتشجيع الإلحاد والتطاول على مقدس كل شعيرة وشريعة نص عليها ديننا الحنيف، وفعل كل مقذور ومعاف محظور لا يليق ولا يتناسب مع المقاصد العليا لاستخلاف الإنسان في الأرض، على أن يمرر كل هذا وزيادة غابت عن الذهن حالا، باسم الحرية الفردية والحقوق المدنية والمشترك الإنساني.
وهب أننا جعلنا في كل شبر من جغرافيا الوطن مهرجانا من حجم مهرجان موازين، وجلبنا له الحفاة العراة من الشواذ والبغايا أهل المكاء والتصدية، فأغدقنا عليهم من المال العام باسم المؤسسات الراعية والداعمة، وأقمنا مآدب الإفطار النهاري لرمضان، ومكّنا الملاحدة من مرافق الارتياد.
فجعلنا في مقابل كل مسجد حانة ومرقص، وفي كل درب من دروبنا بيتا للخنا يشد بنيانه ملجأ لنماذج الأم العازب، وفتحنا أبوابنا المشرهة أمام وافدات السياحة المتجنية التي عبثت بالأرض واستباحت العرض وأحطنا الغاصب والمغتصب والفاجر والمنحرف بهالة من الحماية والاحترام الواجب بالنظر إلى ما تذره السياحة من عملة صعبة وتضخه ليس في صناديق المالية العامة ولكن في جيوب المضاربين في إملاق الولد وأطباق العرض.
وهب أننا سقينا هذا الفصام النكد بالدعوات المحمومة الناضحة بنعرات الجاهلية الأولى الرائمة إلى خلق خرق في تراص جسد الأمة باسم حق تقرير المصير وحق الشعوب الأصلية واللهجات المحلية التي لا يزايد أحد على وجودها المشروط والمعتبر المبرر محليا لا دوليا.
ثم عطفنا على كل هذا عملية طرح أقصينا بموجبها لغتنا ولساننا الأفصح لحساب عامية لا تبقي ولا تذر، بدعوى إصلاح منظومة تعليمنا المتهالك المريض، مع واجب التنبيه على أن هذا الطرح لا يكون ولن يكون إلا في مسار العمليات الحسابية التي تخدم -إذا ما اشرأبت أعناقنا لترى ما وراء الأكمة ولتقف على خلفيات الأمور ومكامن الردى منها- مستعمر الأمس ومتربص اليوم.
وللمرء بعد هذا الافتراض أن يربط الأسباب بنتائجها والعلل بمعلولاتها، ليرى أكان فعلا هذا المناخ المتسفل في الرذيلة والجو الضارب الطنب في ظلمة الفساد وغاسق الإفساد، الغارق في لجة الفرقة وتداعياتها الشاذة، هو جو ومناخ قادر أهله على النفوذ في أقطار السماوات والأرض وغزو الفضاء وإرسال وتوطين الأقمار الاصطناعية في أركانه، والنهوض بمردودية التعليم والدفع بعجلة البحث العلمي والمعرفي وخلق حركية تصنيعية تحول مادتنا البشرية الاستهلاكية إلى طاقة إنتاجية رائدة ومتحررة مكتسحة لكل المجالات الحيوية من اقتصاد وطب وملاحة جوية وبحرية وإعداد عدة وعتاد قادر على منحنا سبابة اعتراض في محافل “الفيتو” الإقليمية، وجعل كلمتنا مسموعة لها وقع رهبة في قلوب الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
وبطبيعة الحال فلن يطول بنا الاسترسال بالتمني والسعي طويلا وراء الأوهام والأحلام، لنكتشف وكما كنا نكتشف التوازي بافتراض التقاطع أن افتراضنا الحسابي لن يكون من نتائجه إلا مسترسلات الكوارث المردية.
إذ كيف لمجتمع غاب عنه حس الأدب والمسؤولية أن يرتقي مدارج المجد وأن تلامس أقدام سيره التاريخي منازل العز والكرامة، وهو الذي تمرد على كل خصيصة وميزة وضابط يليق ويتناسب والمقاصد العليا من استخلاف بني آدم في هذه الأرض ومن تم مستلزمات حمل أمانة التكليف والتشريف الإنساني.
وربما لم نكن في حاجة إلى هذا النوع من الافتراض في باب سلك مسلك الدلالة على ما آلت إليه الأمور، لولا أن الذين يرفعون شعار الإصلاح والحرية والعقلانية قد ربطوا كل مشروع نهضة وتقدم ورقي ومسايرة ركب صناعي متطور بمدى تحرر الإنسان وإلغائه لقيم دينه والهرولة في مسعى الاستجابة لهواتف جسده والالتفات إلى نداءات الشهوة في أعماقه تلبية لرغباته المتوحشة في ركز بهيمي لم ير لها مثيل حتى في عالم القردة والحمر المستنفرة.
فهل يا ترى أفلح أصحاب هذه العقول والتصورات في معالجة الأمراض التي استشرت في جسد الأمة وكادت وتكاد ترديه، وهل استطاعوا على مرٍّ قرن من الزمان عبر ضجيجهم وعويلهم وصراخهم وتباكيهم أن ينالوا من إيجابيات مدنية الآخر في مجالات العلم والصناعة، أم أن نجاحهم وفلاحهم لم يكن ليتأتى إلا في خانة كسب سلبيات الآخر ومصائبه التي انضافت إلى أمراض الجاهلية المركوزة في جنسنا كلما جعلنا الدين ظهريا، ولا شك بعد هذا أن أي ربط بين هذا وذلك هو ربط بالمقاييس العلمية والموضوعية لا يثبت للنقاش ولا يلتفت إليه، إذ هو ربط كذبته التجربة والمعاينة ونسفت قواعد التلازم فيه تجليات ما نعيشه ونتذوق مرارة طعمه.
وبقي أن نقول في الأخير، أننا وكما نعلم أن الحياة لا يمكن أن يسودها الخير مطلقا ولا هي يمكن أن تخلو من الشر مطلقا، كما لا يمكن أن يسودها الشر مطلقا وأن لا تكون للحق فيها قومة وقيمة وقياما، فكدحنا باللازم يجب أن يبقى مرشدا بين هذا وذاك، مع واجب الإبقاء على جذوة الأمل في الغد ملتهبة مفتوحة على حساب يلامس النجاح ويجانب الإفلاس، وذلك ولا شك هو من أدبيات الاعتقاد الصحيح في حقيقة الصراع بين الحق والباطل، وأنه صراع مآله إلى النهاية المكتوبة المفروضة، حيث عاقبة الأمور فيها إلى غلبة الحق وذهاب الباطل جفاء.
ولسنا في هذا نغرد خارج سرب حمام الحقيقة وواقع أمر الله، بل هو صوب تدعمه وتزكيه قواعد الشرع الحنيف وتنبئ بنور مجيئه ولو بعد حين آيات الذكر الحكيم مصداقا لقوله تعالى “فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ”.