زراعة «الكيف» من التجريم إلى التطبيع والتقنين
د. محمد بولوز
هوية بريس – الخميس 05 دجنبر 2013م
ما زلنا مع قوم من بني جلدتنا من محنة إلى أخرى، يقاومون كل فضيلة وخصوصا إذا جاءتنا من شرع ربنا ويشجعون كل رذيلة تحت أسماء ولافتات عديدة، وانخرطوا بشكل واضح في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف كما قال تعالى في شأن أهل النفاق: “الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ“(التوبة:67).
فإذا منع الشرع الإجهاض دافعوا عنه باستماتة، وإذا قال بالقصاص قالوا بالحق في الحياة، وإذا أباح الشرع التعدد بشروطه قاموا بالمبالغة في تقييده وسعوا إلى منعه، وإذا منع الدين الزنا قالوا بالحرية في الجسد وفي العلاقات، وإذا عظم الله أمر العربية واختارها لسانا لوحيه همشوها وحاربوها وشجعوا كل لسان محلي أو دولي باسم الخصوصية والانفتاح، وإذا دعا الدين إلى العفة والستر دعوا إلى العري والتفسخ والانحلال، وإذا شدد الشرع في عقوبة دعوا إلى تخفيفها والتنصل منها، وها نحن نعيش اليوم مع دعوات لتقنين زراعة “الكيف” والتطبيع معه، ونحن نعلم علم اليقين مفعول هذه النبتة الخبيثة في تخريب العقول والذمم ليس في بلادنا فحسب وإنما امتد أثرها السيء في العديد من بلاد الدنيا.
وقدموا بين يدي الدعوى جملة من المبررات الواهية، وفي البرلمان وقع تناغم عجيب في الموضوع بين المعارضة (الاستقلال، والأصالة والمعاصرة) ووزارة الداخلية، حيث صرح وزير الداخلية بأنه ليس هناك علاج سحري للمسألة، وأن زراعة “الكيف” قديمة، وأن التشديد يتوجه أكثر لمحاربة المتاجرين فقط، وأن السبيل مع المزارعين هي الطرق الحبية والاكتفاء بالمعالجة بالتحسيس، فنقصت المساحات المزروعة في مناطق، ثم استدرك بأن زراعته رجعت إلى مناطق أخرى بغير أن يربط ذلك بالتساهل الحاصل، ثم ختم بأن الأمر يحتاج إلى فتح نقاش، ثم دخل ممثل “الأصالة والمعاصرة” على الخط ليركز على مشكل المداهمات والشكايات الكيدية ووجود تصفية حسابات سياسية في الموضوع، وثمن إجابة وزير الداخلية وأعلن فشل التشريع الوطني وفشل المقاربة الأمنية، وأن الحل في اللجوء إلى سياسة الحوار واستخدام النبتة الخبيثة في بدائل صناعية ودوائية، ثم قفز وزير الداخلية على المشكل برمته بالقول بأن مشكل المغرب ليس بالأساس مع “الكيف” وإنما هناك ما هو أخطر ألا وهو حجز 414 ألف وحدة من أقراص “القرقوبي” هذه السنة، بما يفيد أن ما يروج ويخرب العقول أعظم بكثير.
تلكم بعض فصول المسرحية رديئة الإخراج والتي تمهد لتطبيع المغاربة مع هذه الآفة والنبتة الخبيثة، وأقصد بالتطبيع انتقالها من الاستهجان والتجريم واعتقاد الحرمة ولا قانونية الممارسة -وإن كان يضعف أمامها من يضعف- إلى الجواز والتقنين والرواج “الطبيعي”.
والإيحاءات واضحة بل هي تصريحات جلية للمبتلين بهذه الآفة أن استمروا في حرثكم وزراعتكم وأن أموالكم هي طيبة عليكم حلال ولم تعودوا بحاجة إلى تبييضها، وهذه الانتخابات قادمة وما كنتم تقومون به سرا فلكم أن تحصدوا به مزيدا من مقاعد البرلمان والمجالس البلدية والجماعية نهارا جهارا لتشكلوا فرقا أكثر تأثيرا في القرار ومزيدا من التطبيع مع آفة تخريب العقول، وما أدري كيف نتساهل مع مفسدة متحققة واضحة للعيان لمصالح متوهمة من نسج الخيال، فأولا أين هذه الصناعات التي يتحدث عنها وأين الأدوية التي تصنع منها وكيف يتم الوصول إلى ذلك بأيسر سبيل؟ وهل تستوعب تلك الجهات كل هذه الكميات المزروعة؟ ثم هل سيدفع هؤلاء من أهل الصناعة المزعومة والأدوية المنتظرة إن صح في هذه النبتة من دواء ما يدفع صناع المخدرات ومروجوها لزراع “الكيف”؟ إننا من دون شك سندخل نفقا من التساؤلات والاحتمالات الوهمية والتي لا يرجى منها حلول ناجعة وقريبة، ونفتح أبوابا يصعب إغلاقها، والشيء المتحقق أننا سنطبع مع سم يضاف إلى السموم التي تنخر كياننا وينتعش في أجسامنا وعقولنا بشكل رهيب ومدمر.
وميزان الشرع يقضي بأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة إن كان ثمة من مصلحة في هذه النبتة الخبيثة، وأن سد الذرائع قاعدة معمول بها لحماية الأصول والضروريات من مثل الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأنها على هذا الترتيب مقدم بعضها على بعض، فلا يضحى بالعقول ولا بالأعراض في سبيل تحصيل الأموال، إنما تبذل هذه الأخيرة لحماية وحفظ الضرورات الأخرى كلها، وأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فلا يمكن إيجاد حلول لفئة محدودة من الناس تعيش على آفة “الكيف” على حساب شعب بكامله، بل وعلى حساب أعداد هائلة من الناس في ربوع العالم يساهم زراع الكيف وصناع المخدرات والسلطات المتواطئة والراغبون في تجويزها وتقنينها، ومن يدور في فلك هؤلاء جميعا في تدمير عقولهم وشبابهم وأسرهم. وينالهم الأذى من المغرب بعد أن كان يصدر الحضارة والقيم في عصوره الزاهرة.
ومن الخطير أن تعلن السلطة والجهات الأمنية عن العجز ورفع الراية البيضاء في مواجهة آفة زراعة “الكيف” لأن مثل هذا لا يعلن وحتى إن تحقق العجز على مستوى الواقع، فليس ذلك من السياسة ولا الكياسة في شيء، كما لا يجوز تسويغ آفة من الآفات ولا تبريرها ولا الحكم بجوازها ورفع صفة الجريمة عنها، لما في كل ذلك من تشجيع للمترددين وتأمين للخائفين وزيادة جرأة المحترفين وتخفيف لقبضة الغيورين وفت في عضد المقاومين، فلأن يأتي الإنسان آفة من الآفات وهو يعتقد منعها وحرمتها وجرمها ومخالفتها للقانون أفضل من نزع كل ذلك عنها فيأتيها بوقاحة وجرأة وإشهار، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين“.