اللغة العربية بين «الدسترة» والواقع

30 مارس 2014 23:47
فرنسا ستدرج اللغة العربية في المناهج التعليمية بمدارسها منذ المرحلة الابتدائية

اللغة العربية بين «الدسترة» والواقع

ذ. الحسن العسال

هوية بريس – الأحد 30 مارس 2014

لطالما تحدث بنو علمان عن الانفتاح وفوائده، وعن التصالح مع الجسد ومميزاته، غير أنهم لا يقصدون بالانفتاح إلا الارتماء في أحضان الغرب، ولا يعنون بالتصالح مع الجسد إلا العري وكشف العورات.

ومع ذلك يحظرون على المغاربة الانفتاح على محيطهم اللغوي، ويشنون -خصوصا الأمازيغويين منهم- الغارات تلو الأخرى للحيلولة دون التصالح مع الجسد العربي.

فهل يريدون أن نتخلى عن لغتنا العربية الفصحى، لصالح لهجات عامية، تكرس القطرية، بدعوى الخصوصية التي تناقض الانفتاح الذي يدعون إليه، مع أن الانفتاح -الذي نقصده- ليس هو في حقيقة الأمر إلا خصوصية تتصالح مع جسدها، لأننا إن لم نفعل، سنكون قد ضيعنا مشترك خمس وعشرين دولة، تضم خمسين وأربعمائة (450) مليون إنسان عربي يتكلمون نفس اللغة.

هذه اللغة التي سترتقي لتصبح في الدرجة الخامسة عالميا، هذا فضلا عمن يستعملها من المسلمين وغير المسلمين الأعاجم، زيادة على استعمال واحد وستين مليونا من رواد الشابكة لها، أضف إلى ذلك اختراقها لميادين في الرقمنة والفضائيات، لكن كل هذه الحقائق لا تملأ عيون بني علمان الذين استمرأوا التبعية والذيلية.

عيوش وعصيد وأمثالهما يعملون بكل ما أوتوا من كيد للقضاء على العربية على الرغم من أن الفصل الخامس من الدستور نص على أن: “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها”.

والناظر إلى الواقع المزري للعربية في بلادنا يستغرب من التناقض الصارخ بينه وبين ما سطر في الدستور، مع أن هذا التناقض ضد المصالح العليا للبلاد، إذ يؤكد عالم المستقبليات الكبير المهدي المنجرة على أن أركان التنمية ثلاثة هي: محاربة الأمية، والدفاع عن اللغة، والبحث العلمي.

هذا كله لم يثن أعداء العربية عن مناهضة العربية بالقهر، على الرغم من أنها انتشرت خارج بيئتها الأصلية دون قهر كما أكد على ذلك الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، بل إن هؤلاء الأعداء يريدون أن يكون قدرنا تبعا لقدر الغرب الذي تخلى عن لغته اللاتينية الجامعة، لصالح لغات قطريات كانت في البدء لهجات، فنتخلى نحن أيضا عن لغتنا العربية، لصالح عاميات محلية، لا تسمن ولا تغني من جوع.

إلا أن الفرق بيننا وبين الغرب في هذا الأمر هو أنه اختار طواعية التخلي عن لغته، أما نحن فإرادة التخلي خارجة عنا، رغبة في تشرذمنا وتمزيقنا أكثر مما نحن ممزقين.

إلا أن السؤال المطروح في هذا السياق هو: لماذا لازالت اللغة العربية الفصحى بيننا، تقاوم الضربات الشديدة والمتوالية، التي وجهت ولازالت توجه لها منذ السنوات الأولى من القرن السادس عشر؟

مع أن هناك لغات انقرضت بدخول الاحتلال لبلادها، مثل ما وقع في البرازيل التي انقرضت منها 170 لغة بعد الاحتلال البرتغالي، وهناك أكثر من 400 لغة في طور الاحتضار.

لقد صنفت اليونسكو اللغة العربية في عداد اللغات الآيلة إلى الانقراض، فهل من الممكن انقراضها، وقرآن ربنا يتلوه الملايين من الأعاجم قبل العرب، ويبحثون في علومه؟

إن أعداء العربية ينعتونها بالضعف والشيخوخة المعرفية، وعدم الكفاية، وعدم مواكبة متطلبات العصر، غير أن خبراء العربية الغيورين ينفون عنها ذلك، ويضعون السياسة في المرتبة الأولى باعتبارها العامل الحاسم في بقاء اللغة من عدمه، قبل الاقتصاد والتكنلوجيا والثقافة والفكر والعلم، لذلك نرى “الإرادة السياسية اللغوية” في بلادنا تحظى بها الفرنسية دون اللغة المرسمة.

فماذا استفادت اللغة العربية منذ ترسيمها في أول دستور؟

هناك من استبشر بالدستور الجديد خيرا، لأنه نص فصله الخامس على أن: “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها”.

هذا، فضلا عن الخطاب الملكي الذي اعتبر أن: “ﻣﺸﺮﻭﻉ ﺍﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﻳﻜﺮﺱ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻟﻐﺔ ﺭﺳﻤﻴﺔ ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ، ﻭﻳﻨﺺ ﻋﻠﻰ ﺗﻌﻬﺪ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺑﺤﻤﺎﻳﺘﻬﺎ ﻭﺍﻟﻨﻬﻮﺽ ﺑﻬﺎ”.

غير أن دسترة العربية، والإعلاء من شأنها بحمايتها وتطويرها في الدستور، لم يغير من واقع التعامل المزري معها شيئا، لأن التنظير إذا لم يُفَعَّل على الأرض يظل كلمات جوفاء في الهواء لا قيمة لها، إلا أن تكون للتخدير والإلهاء.

فهذه أكاديمية محمد السادس للغة العربية طال انتظارنا لبزوغ فجرها، إلا أنها لم تر النور لحد الآن، وبدلا من ذلك تم تفعيل مؤامرة الإجهاز على اللغة العربية بتوقيع وزير التربية الوطنية، اتفاقية مع نظيره الفرنسي فانسون بيون، يدخل بموجبه الباكالوريا الفرنسية إلى الثانويات العمومية المغربية إلى ست مؤسسات تعليمية بالسلك الثانوي التأهيلي، في أفق تعميمها على مجموع النيابات الإقليمية ابتداء من الموسم الدراسي 2014-2015.

مع أن الفرنسية لم تحظ في الدستور بتخصيص أو عناية، اللهم اعتبارها لغة يُنفتح عليها كأي لغة أجنبية، لكن واقعها في المغرب يجعل منها أول لغة تحظى بالحماية والاهتمام الشديدين، فلم الدستور إذن، إذا كان خرقه يتم على المستوى الرسمي؟

بل لم الضحك على عقول المغاربة عندما يقول الوزير: “أنه الآن يجب التركيز على اللغة الإنجليزية لأنه من دونها لا يمكن فهم العالم وليست الفرنسية”، لكنه يوقع اتفاقية مع وزير فرنسي، وليس مع وزير بريطاني !

هل بعد هذا الاستحمار استحمار؟

ألا يعد هذا ضربا للعقل وللدستور وللميثاق الوطني للتربية والتكوين، اللذين قيل إنهما حظيا بالإجماع.

أما الدستور فقد سردنا نصه، وأما الميثاق الوطني للتربية والتكوين فينص في دعامته التاسعة على: تحسين تدريس اللغة العربية، واستعمالها.

فلم هذا الانفصام بين الفكر والواقع؟

إن ارتباط الفرانكفونيين بالفرنسية أضحى ارتباطا وجدانيا، فحسب، وليس من العقلانية في شيء، لأن اللغة العربية، حسب الدكتور الفهري، أصبحت مربحة اقتصاديا، ووسيلة للكسب، فلم لا ينظر إليها على الأقل على أنها استثمار يساعد في التنمية؟ ولو أنها، أي اللغة عامة، أعظم شأنا من ذلك:

لأن “اللغة، أية لغة ليست أداة للتواصل فحسب، [بل] لها دور أساسي في تكوين نظرة الإنسان وفلسفته للكون، إنها وعاء الفكر والوجدان، مخزن تجارب الأمة بأسرها. كل لغة عبارة عن وسيلة فريدة في تحليل العالم وتركيبه، طريقة في بناء الواقع.”

يقول الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري: “ولعل أُولى الأولويات في النهوض بالعربية هي تحسين بيئتها العامة، مجتمعيا وسياسيا واقتصاديا وقانونيا، لإعادة الثقة فيها كلغة، ودفع العداء والبخس عنها، وبث الثقة في متعلميها ومعلميها، والعلماء من أهلها، والمشغِّلين والمشغَّلين بها، ودعم تعريب التعليم أفقيا وعموديا، وفي مختلف مناحي الحياة العامة، وحث شركات الإشهار والإعلان على استعمال العربية عوض اللهجات الدارجة أو اللغات الأجنبية”.

إن إزالة الانفصام بين ما نص عليه الدستور في حق العربية، وبين واقعها على الأرض، هو وحده الكفيل بإسكات الأصوات المأجورة والمتطفلة، وفسح المجال لأهل الدار من الخبراء والمختصين للإدلاء بدلوهم العلمي البعيد عن لوثة السياسة، لمعالجة التدهور الذي تعاني منه العربية بشكل عام، والتعليم بشكل خاص.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M