تكييف شرعي لبعض وسائل الاحتجاج والتظاهر المعاصرة (ح2)
المسيرات والوقفات والاعتصامات..
د. محمد أبوالفتح
هوية بريس – الثلاثاء 22 أبريل 2014
قبل الشروع في مقال جديد أود أن أوضح أن هذه السلسلة من المقالات سلسلة علمية صرفة، قصدت بها الاجتهاد في طلب الحق من القرآن والسنة، وليس المقصود منها الدفاع عن حكام ظالمين، ولا إرضاء عامة مظلومين. كما أني لم أقصد بها الخصومة والجدال، فإني أكره الخصومة في الدين، وأقبل النصيحة والتوجيه. ولا أفرض ما أعرضه على غيري.
خلاصة ما تقدم معنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة شيئان:
– التنبيه على ضرورة تكييف وسائل الاحتجاج المعاصرة وتصور حقيقتها قبل الحكم عليها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
– التنبيه على أصل مهم من أصول أهل السنة وهو: “وجوب طاعة ولاة الأمر من المسلمين في المعروف وتحريم الخروج عليهم، والصبر على جورهم“، وهو أصل متفق عليه بين أهل السنة للنصوص والنقول التي سبق إيراد بعضها. وقالت الخوارج والمعتزلة إنما تجب الطاعة لأهل العدل دون أهل الجور، وعَدُّوا الخروج على الإمام الجائر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة، ولهم في ذلك شبه ونصوص متشابهة يتعلقون بها. وليس -بحمد الله- فيمن يخالفنا من إخواننا من ينتحل هذه النحل الضالة المضلة، وإنما المقصود بذكر هذا الأصل التذكير به واستصحابه في هذا البحث لما له من تعلق بالمسائل المبحوثة.
– أن طاعة الإمام الجائر إنما هي في المعروف، وعدم الخروج عليه ليس محبة في جوره، وإنما طاعة لله ورسوله، وحقنا للدماء، وتسكينا للدهماء، نظرا لما يترتب على الخروج من مفاسد عظيمة.
– أن الخروج على الإمام الجائر لا يجوز حتى يقع في الكفر البواح، فإذا وقع منه الكفر البواح لم تلزم طاعته ووجب عزله إذا أمكن ذلك من غير مفسدة راجحة، فإن لم يمكن عزله إلا بمفاسد متوقعة هي أضعاف المفاسد الواقعة لم يجز عزله والخروج عليه، ليس لوجوب طاعته فإنه لا طاعة له، وإنما مراعاة للمصلحة والمفسدة.
– أن الذي يقدر الكفر البواح ويقرر العزل هم أهل العلم دون غيرهم.
– أن واقع كثير من حكام البلدان الإسلامية أنهم أقروا القوانين الوضعية التي أقامها الاستعمار بدل الشريعة الإسلامية، وليس حكمهم عند أهل العلم كمن وجد الشريعة قائمة فألغاها وأقام بدلها قوانين وضعية كصنيع التتار وأتاتورك.
– أن طاعة أهل الجور من الأئمة في المعروف وعدم الخروج عليهم لا يعني السكوت عن منكراتهم، ولهذا كان الأمر الثاني الذي أردت التنبيه عليه في هذا التمهيد هو:
* التنبيه الثاني: وجوب النصيحة لولاة الأمر من المسلمين:
وقد دل على وجوب النصح لحكام المسلمين نصوص كثيرة منها:
– حديث تَمِيمٍ الدَّارِي أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (صحيح مسلم 55).
– وحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (صحيح الجامع 1100).
– وحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ” (صحيح الجامع 3675).
– وقد جُمع بين الأمرين ( النصح للأئمة والصبر عليهم بلزوم الجماعة) في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (صحيح الجامع 6766). وكذا جُمع بين الأمرين في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ” (متفق عليه).
فاجتمعت في هذا الحديث أمور ثلاثة، كلها من حقوق الراعي على الرعية:
1- السمع والطاعة للأئمة في المعروف وإن شق ذلك على النفس.
2- عدم الخروج عليهم ومنازعتهم في الأمر.
3- أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وعدم خوف لومة لائم. ولا يكون ذلك إلا بالطرق الشرعية التي لا تترتب عليها مفاسد راجحة.
والحاصل أنه لا تعارض بين وجوب الصبر على جور الأئمة، وبين وجوب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالطرق الشرعية، وقد أخطأ من فهم من نصوص الصبر السكوت عن الحق، كما أخطأ من فهم من نصوص الأمر بالمعروف الخروج على الحاكم، وأسعد الناس بالحق أهل السنة؛ إذ جمعوا بين النصوص، ولم يضربوا بعضها ببعض.