الاعتدال في نقد الرجال (ح1)
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الخميس 07 غشت 2014
تحديد موضوع النقاش ومجاله
إن من أهم ما ينبغي إصلاحه من أحوالنا وعلاجه من أدواءنا؛ هذا الغلو الذي استفحل بين كثير من الشباب السلفي المتحمس حماسا يدفعه إلى اقتحام معتركات صعبة والهجوم على مجالات هي أكبر منه بكثير..
بل إنك ترى شبابا يسارعون إلى إصدار أحكام وفتاوى؛ لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وترى طلبة علم صغار يتطاولون على علماء لا يبلغون مقاماتهم في العلم والفقه والدعوة والنضال من أجل إصلاح أحوال الأمة..
إنها ظاهرة سلبية جداً أضرت بالمنهاج السلفي، وجرإت المبتدئين والصغار، ووفرت الأجواء لتصدر وتمشيخ مجاهيل الحال، وأحيانا مجاهيل العين المتخفين خلف الكنى والألقاب الكبيرة..
فانهارت الأخلاق واختلطت المفاهيم وتلاعب الصغار بالعلم وانتحلوا شخصية العلماء، وإفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا..
واستغل ذلك المغرضون لبث الفوضى العلمية والأخلاقية في بيئة العلم والدعوة السلفية، وتنفير الناس من خطابهما الإصلاحي..
إنه مظهر من مظاهر الانحراف التربوي والأخلاقي الذي طالما حذر منه كبار مشايخ هذه الدعوة المباركة رحمهم الله؛ في مقدمتهم الأئمة: ابن باز وابن عثيمين والألباني الذي ختم حياته بقوله: “لقد قطعت دعوتنا أشواطا في المجال العلمي، لكننا فرطنا كثيرا في الجانب التربوي“.
إن من أوسع أودية هذا الغلو، بعد “ظاهرة التكفير” والخروج على المسلمين بالعنف العملي؛ “ظاهرة الغلو في التعامل مع المخالف“، التي تمثل نوعا من أنواع العنف المعنوي..
وقد انبرى لهذه الظاهرة العلماء والمصلحون، ونصحوا الشباب وطلبة العلم بالبعد عن أسبابها وأجوائها، وهو باب كبير ومهم من أبواب الإصلاح الذي يجب الرباط عند ثغره؛ بيانا للحق وصيانة لهذا المنهاج المبارك من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..
لقد نصحت أحد إخواني من طلبة العلم أن يتفادى التورط في مهاجمة من هو أكبر منه علما وفقها، كي لا يستدرجه شياطين الإنس والجن إلى تلك الأودية السحيقة المشار إليها في صدر المقالة، وأحببت له -نصحا ومودة يشهد الله-؛ أن يتفادى العجلة في هذا الأمر..
لكنه أبى إلا أن يمضي في هذا الطريق الوعر الذي قال فيه الإمام الذهبي في كتابه “تذكرة الحفاظ”:
“ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا؛ إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان، وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها… ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فإن آنست يا هذا من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا، وإلا فلا تتعن.
وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب.
وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله؛ فأرحنا منك؛ فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
فقد نصحتك”.
وليعلم القراء الكرام؛ أنه لولا خطورة هذا الغلو، وآثاره السلبية على الدعوة وواجب الإصلاح، ولولا وجوب بيان بطلان هذا المنهاج في الرد على المخالف..؛ لما صرفت وقتا في كتابة هذه المقالات التي أحب أن أنصح فيها الشباب السلفي الطيب تعاونا معه على النجاة من هذه الأحوال المؤدية والأوحال المردية..
فليس قصدي الرد على شخص معين أو كلام معين؛ بقدر ما أحب أن أوضح خطر ظاهرة معينة.
وسأسلك بإذن الله تعالى في هذه السلسلة؛ منهجية الانتقال من الخاص إلى العام، ومن سبب النزول إلى عموم الموضوع: “إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ“.
وأبدا بمقدمة في بيان: حقيقة الإشكال وتحديد موضوع النقاش ومجال الحوار:
الموضوع هو: منهجية الرد على المخالف.
والمشكل هو: غلو كثير من طلبة العلم والدعاة في الرد إلى درجة إصدار أحكام كبيرة جداً، لا يضطلع بها إلا العلماء المجتهدون الذين استكملوا أو قاربوا المواصفات التي جاءت آنفا في كلام الإمام الذهبي.
هذا هو موضوع البحث؛ وليس موضوعه:
هل قال الدكتور القرضاوي بقول الأشاعرة في بعض أبواب العقيدة؟
وليس موضوعه:
مشروعية انتقاده والرد عليه فيما أخطأ فيه من مسائل العقيدة والفقه.
وليس موضوعه:
أهمية الرد على المخالف وأنه من الدين ومن أبواب الإصلاح.
وليس موضوعه:
“الدفاع عن مقال الدكتور عادل رفوش”..
ليس هذا كله هو مجال البحث؛ وإنما مجاله: الجواب على الأسئلة التالية:
هل تبيح لنا تلك الأخطاء؛ الغلو في نقده والرد عليه إلى درجة إخراجه من السنة والسلفية؟
وهل يعد هذا من أصول المنهاج السلفي؟
وهل هو منهاج أئمته وعلماءه الكبار؟
وهل حكم عالم معتبر على آخر بالخروج من السنة؛ حجة ملزمة؟
وعليه؛ فأنبه القراء الكرام؛ إلى أن الكلام في غير هذا المجال وذلك الموضوع؛ هو خروج عن الموضوع وحيدة عن مجال النقاش.
مع التنبيه أيضاً على أن هذا يسمى في علم المناظرة: حيدة، وإليه يلجأ من انقطعت حجته؛ بحيث يجر مناقشه إلى مجال وموضوع لا يخالفه فيه أصلا، ليوهم القراء أنه يخالف ما ثبت بالدليل!
كما فعل بعض الفضلاء؛ حين أبدوا وأعادوا في نقد سلوك التظاهر والعمل السياسي غير المنضبط بالضوابط الشرعية، وضيعوا الأوقات والندوات والكتابات في تقرير ما هو معروف ومسلم به، وحادوا عن موضوع النقاش ومجال الاختلاف؛ وهما:
“مشروعية العمل السياسي بالضوابط الشرعية التي نص عليها العلماء في فتاويهم”..
وأنا بفضل الله تعالى وتوفيقه أتابع كلماتهم وأجمعها لمناقشتها بتفصيل وتوضيح يرفع الإشكال الذي حصل لكثير من السلفيين بسبب التعميمات والتعويمات المشار إليها، والتي طلبت محاورة إخواني بشكل مباشر حتى نرفعها.. لكنهم لم يستجيبوا مع الأسف.
يتبع بإذن الله تعالى..